بحثًا عن أم القيم: البركة
بقلم المنشاوي الورداني
هل ذهب الصالحون وذهبت معهم البركة؟
هل انطفأت أنوار البركة الحقيقية أمام أنوار المدنيَّة؟
في الأيام الخوالي، كانت مرتبات ودخول الناس قليلةً، ولكنها كانت مُتْرَعة ببركة عظيمة، لا تبددها الأمراض والأرزاء.
واليوم يتقاضى الموظفون مرتباتٍ كبيرة، ولا تكاد تسد رمقَ طمعهم، وإصرارهم على طلب المزيد في مطالب فئوية، ولا يعرفون حتى الآن سر عدم كفاية ما يتقاضون، ولا يعلمون حقيقة أنها قد تكون منزوعةَ البركة.
وفي حياتنا قد تجد أسرة قليلةَ الدخل والجهد، ولديها سيارة متواضعة، ولكنهم يعيشون حياة سعيدة تتمتع بالبركة.
وعلى النقيض، ترى أسرة تحيا في القصر المَشِيد، ولديها أرتال من المركبات الفارهة، والمتع الفاخرة، وتتحسر على تلك البركة والسعادة التي يحياها من يعيش في الكوخ المَهِين.
إنها البركة التي كان الصالحون يستجلبونها بالإيمان والتقوى، والبعد عن المحرَّمات، والإخلاص في العمل، وإغاثة الملهوف، والالتزام بقيم الإسلام فعليًّا، واليقين فيما عند الله من رزق حلال.
تلك القيمة التي نعتبرها أمَّ القيم؛ لأنها باختصار قيمةٌ باطنة، هي ثمرة الالتزام بقيم ظاهرة: ﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ [لقمان: 20].
لذلك يخطئ الكثيرون من الناس عندما يظنون الخير في كثرة العَرَض ووفرة النماء؛ فقد تنقلب هذه النعمة إلى نقمة، بالأرزاء والأمراض إذا لم تتوفر فيها البركة.
والبركة عطاء إلهي، وسرٌّ رباني، لا يأتي إلا للباحثين عنه بما يوجب نزول هذه البركة: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ… ﴾ [الأعراف: 96]؛ لذلك كانوا يبحثون عن البركة تمامًا للخير، وحفظًا للنعمة.
ولعل أول من بحث عن البركة في السيرة النبوية السيدة حليمة السعدية، عندما وجدت من بركات النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو طفل رضيع مدة عامين أو يزيد؛ حيث تدفق اللبن في ضرعها، وتدفق الخير في زرعها وزرع من حولها.
كما لاحظت السيدة خديجة بركةَ هذا النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو شاب فَتِي، عندما ازداد النماء والخير في مالها وتجارتها؛ فحرَصت على الزواج بخير البرية.
ولقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعلِّم أهل بيته ضرورة البحث عن هذه البركة، فكان يقول لفاطمة:
((قومي، فاشهدي رزق ربك – عز وجل – ولا تكوني من الغافلين؛ فإن الله – عز وجل – يقسم أرزاق الناس ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس))؛ البيهقي.
كما علَّم النبي الأكرم – صلى الله عليه وسلم – ابنته فاطمةَ طريقةَ استجلاب هذه البركة بالإخلاص في الذِّكر، ففي الصحيحين عن علي: “أن فاطمة شكت ما تلقى في يدها من الرحى، فأتت النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – تسأله خادمًا، فلم تجده، فذكرتْ ذلك لعائشة، فلما جاء أخبرته، قال: فجاءنا، وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبتُ أقوم، فقال: ((مكانك))، فجلس بيننا، حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: ((ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم؟ إذا أويتما إلى فراشكما – أو أخذتما مضجعكما – فكبِّرا أربعًا وثلاثين، وسبِّحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين؛ فهذا خير لكما من خادم)).
ويذكر أن الطعام انتهى من بيت علي وفاطمة، فقالت في الصباح: اذهب، فالتمس لنا طعامًا، لعل الله يرزقك، فأخذ علي فروًا ليتقي البرد، ثم تسلَّل إلى أرض اليهود، فإذا يهودي ينزح الماء من البئر على الجمل، فقال اليهودي: يا غلام، فقال علي: نعم، قال: انزع غربًا بتمرة، فنزع علي غربًا، فأعطاه اليهودي تمرة، وكلما نزع غربًا، أعطاه تمرة، حتى ملأ يده، وما أن ملأ يده حتى ذهب، فلقيه الرسول – صلى الله عليه وسلم – فسأله: أين كنت؟ فأخبره.
فقال: أين التمر؟ فأراه، فدعا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالبركة، وأكل منه تمرة، والبركة فيما بقي من أكله – صلى الله عليه وسلم – تعادل الدنيا، فذهب إلى فاطمة فأخذا يأكلان.
ولقد كانت بركات النبي – صلى الله عليه وسلم – موضعَ المشاهدة بين الصحابة؛ ليتعلموا مواضع نزولها، وطرق استجلابها.
ذكر الإمام أحمد عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في غزوة غزاها، فأرمل فيها المسلمون، واحتاجوا إلى الطعام، فاستأذنوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في نحر الإبل، فأذن لهم، فبلغ ذلك عمرَ بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: فجاء فقال: يا رسول الله، إبلهم تحملهم، وتبلغهم عدوهم، ينحرونها؟! ادعُ يا رسول الله بغبرات الزاد، فادع الله – عز وجل – فيها بالبركة، قال: ((أجل))، فدعا بغبرات الزاد، فجاء الناس بما بقي معهم فجمَعه، ثم دعا الله – عز وجل – فيه بالبركة، ودعاهم بأوعيتهم فملأها، وفضَلَ فضلٌ كثير، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عند ذلك: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أني عبد الله ورسوله، ومن لقي الله – عز وجل – بهما غير شاكٍّ، دخل الجنة)).
وعن أبي هريرة، قال: لما كانت غزوة تبوكَ أصاب الناسَ مجاعةٌ، فقالوا: يا رسول الله، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا، فأكلنا وادهنا؟ فقال: ((افعلوا))، فجاء عمر فقال: يا رسول الله، إن فعلوا قل الظهر، ولكن ادعُهم بفضل أزوادهم، ثم ادعُ لهم عليها بالبركة؛ لعل الله أن يجعل في ذلك البركة، فأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بنِطعٍ فبُسط، ودعا بفضل أزوادهم، قال: فجعل الرجل يجيء بكف التمر، والآخر بالكسرة، حتى اجتمع على النطع شيء من ذلك يسير، فدعا عليهم بالبركة، ثم قال: ((خذوا في أوعيتكم))، فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوه، وأكلوا حتى شبعوا، وفضَلتْ فضلة، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى اللهَ بها عبدٌ غيرَ شاكٍّ فتحتجب عنه الجنة)).
وهكذا رواه مسلم أيضًا عن سهل بن عثمان وأبي كريب، كلاهما عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، وأبي هريرة فذكر مثله.
وذكر الإمام أحمد رواية عبدالرحمن بن أبي عمرة الأنصاري، الذي قال: حدثني أبي، قال: كنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في غزاة، فأصاب الناسَ مَخمَصة، فاستأذن الناس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في نحر بعض ظهورهم، وقالوا: يبلغنا الله به، فلما رأى عمر بن الخطاب أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد همَّ أن يأذن لهم في نحر بعض ظهورهم؛ قال: يا رسول الله، كيف بنا إذا نحن لقينا العدو غدًا جياعًا رجالاً؟ ولكن إن رأيت يا رسول الله أن تدعو لنا ببقايا أزوادهم وتجمعها، ثم تدعو الله فيها بالبركة؛ فإن الله سيبلغنا بدعوتك، أو سيبارك لنا في دعوتك، فدعا النبي – صلى الله عليه وسلم – ببقايا أزوادهم، فجعل الناس يجيئون بالحبة من الطعام وفوق ذلك، فكان أعلاهم مَن جاء بصاع من تمر، فجمعها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم قام فدعا ما شاء الله أن يدعو، ثم دعا الجيش بأوعيتهم، وأمرهم أن يحتثوا، فما بقي في الجيش وعاء إلا ملؤوه، وبقي مثله، فضحك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى بدت نواجذه، وقال: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أني رسول الله، لا يلقى الله عبد يؤمن بهما إلا حجبت عنه النار يوم القيامة)).
وقد رواه النسائي من حديث عبدالله بن المبارك بإسناده نحو ما تقدم.
وفي رواية عمر بن الخطاب أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ((من كان معه فضل طعام، فليجئ به))، فجعل الرجل يجيء بالمُدِّ والصاع، وأقل وأكثر، فكان جميع ما في الجيش بضعًا وعشرين صاعًا، فجلس النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى جنبه فدعا بالبركة، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا ولا تنتهبوا))، فجعل الرجل يأخذ في جرابه، وفي غرارته، وأخذوا في أوعيتهم، حتى إن الرجل ليربط كم قميصه فيملؤه، ففرغوا والطعامُ كما هو.
ثم قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وإني رسول الله، لا يأتي بها عبدٌ محقٌّ إلا وقاه الله حر النار)).
وذكر الحافظ أبو يعلى رواية إياس بن سلمة عن أبيه، قال: كنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في غزوة خيبر، فأمرنا أن نجمع ما في أزوادنا – يعني: من التمر – فبسط نطعًا نشرنا عليه أزوادنا.
قال: فتمطيت فتطاولت فنظرت، فحَزَرته كرَبْضَة شاة، ونحن أربع عشرة مائة.
قال: فأكلنا، ثم تطاولت فنظرت، فحزرته كربضة شاة.
وقال رسول الله: ((هل من وَضوء؟))، قال: فجاء رجل بنقطة في إداوته، قال: فقبضها فجعلها في قدح، قال: فتوضأنا كلنا نُدَغْفِقه دَغْفَقَةً، ونحن أربع عشرة مائة.
قال: فجاء أناس فقالوا: يا رسول الله، ألا وَضوء؟ فقال: ((قد فرغ الوَضوء)).
وقد رواه مسلم عن أحمد بن يوسف السلمي، عن النضر بن محمد، عن عكرمة بن عمار، عن إياس، عن أبيه سلمة، وقال: فأكلنا حتى شبعنا، ثم حشونا جُرُبنا.
وذكر ابن إسحاق في قصة حفر الخندق: أنه قد حدث أن ابنة لبشير بن سعد – أخت النعمان بن بشير – قالت: دعتني أمي عَمْرَة بنت رواحة، فأعطتني جفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أيْ بُنية، اذهبي إلى أبيك وخالك عبدالله بغدائهما، قالت: فأخذتها فانطلقت بها، فمررت برسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا ألتمس أبي وخالي، فقال: ((تعالَي يا بنية، ما هذا معك؟))، قالت: قلت: يا رسول الله، هذا تمر بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد، وخالي عبدالله بن رواحة يتغديانه، فقال: ((هاتيه))، قالت: فصببته في كفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فما ملأتهما، ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دعا بالتمر فنبذ فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده: ((اصرخ في أهل الخندق: أن هلمَّ إلى الغداء))، فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهلُ الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
وانظر – قارئي العزيز – ما ذكرتْه كتبُ الرقائق عن أحد الصالحين الذي تحرى البحث عن البركة، فقال: كان لرجل أربعة بنين، فمرض فجاء صديق له وزاره، وقال لأهله: اسمحوا لي بتمريضه، ولا آخذ أجرًا، فرضوا بذلك، فبقي عنده حتى مات المريض، فانصرف الصديق إلى داره، فأتاه هاتف في المنام فقال له: اذهب إلى مكان كذا وكذا، وخذ منه مائة دينار، فسأل: هل فيها بركة؟ فقيل له: لا، فأصبح يحدث زوجته بذلك، فقالت له: خذها نستعملها في الكسوة والمعاش، فأبى!
فلما أمسى أُتي في المنام، فقيل له: اذهب إلى المكان، وخذ منه عشرة دنانير، فسأل: أفيها بركة؟ فقيل له: لا، فلما أصبح قال ذلك لامرأته، فقالت له مثل مقالتها الأولى، فأبى أن يأخذها.
وفي الليلة الثالثة أتي في المنام، وقيل له: اذهب مكان كذا وكذا، فخذ منه دينارًا، فقال: أفيه بركة؟ قيل له: نعم.
قال: فذهبت فأخذت الدينار، ونزلت إلى السوق، فإذا برجل يحمل دجاجتين، فسأله عن ثمنهما، فقال: بدينار، فاشتراهما، وانطلق بهما فلما دخل بيته، شق بطنهما فوجد في بطن كل واحدة منهما درة ثمينة.
قال: فبعث الملك يطلب درة يشتريها فلم توجد إلا عنده، فباعها بحمل ثلاثين بغلاً ذهبًا، فلما رآها الملك قال: لا تصلح هذه إلا بأخت لها، اطلبوها، وإن ضاعفتم المال.
فجاءه رجال الملك، فقالوا: أعندك درة أخرى، ونعطيك ضعف ما أعطيناك، فأعطاهم إياها بضعف ما أخذوا الأولى.
المنشاوي الورداني
مترجم بالتليفزيون المصري
باحث في التراث