أنماط من البَشَر
مصطفي رجب
البشر أنماط ونماذج متفاوتة ، ونحن نرى هذه الأنماط في حياتنا بصورة رتيبة ، سريعة ، عابرة ، لا نلتفت إليها ، ولا نتأمل سلوكياتها ، ولا نكلف أنفسنا عناء التعمق في عاداتها وأساليبها .
ولعل أهم أسباب تجاهلنا لمرور هذه الأنماط البشرية ، وعدم تعمقنا في سلوكياتها ودوافع تلك السلوكيات ، أنها تمر مرورا عابراً ، سريعاً ، لا يكاد يترك لنا فرصة للتأمل والتفكير .
غير أن هناك نمطاً معيناً يمكن له أن يخترق صمتنا هذا الدائم ، ويعكر سكوننا هذا المقيم ، ويجبرنا إجباراً على التأمل والتفكير فيما يأتي وما يدع ، ويدفعنا دفعا إلى التعمق فيما يقول وفيما يفعل . وهذا النمط الذي أقصده ، نراه يومياً علي شاشات الفضائيات يتنقل في سرعة البعوض ، ورشاقة الخفاش من هنا إلى هناك ، مرة يعظ الناس فيأمرهم بما يراه هو معروفا وينهاهم عما يراه منكراً . ولا أحد يسأله بأي مقياس يقيس ما يراه منكراً ؟ ولا بأي معيار يكيل ما يراه معروفاً ؟
ومرة تراه على شاشة أخرى يدافع عن سادته دفاع الجندي المتخم بعبادة قادته ، المتقمص شخصية من شخصيات سادته ، المتحمس حد الموت دفاعاً عما يسقطونه عليه من فُتات . ومرة ثالثة تراه على شاشة أخرى يفسر أحلام العذارى ويستقبل أناث الأرامل ، ويتوجع لشكايات اللواتي يخفن من أزواجهن نشوزاً أو إعراضاً أو هجراناً .
ولو تأملت ما يختلج في نفسه ، وما يرين علي جلد وجهه من تجاوب مع تلك الأحلام ، وتفاعل مع ذلك الأنين ، وتأثر مع تلك الشكاوى ، لرأيت من ذلك العجب العُجاب .
ومرة رابعة تراه على شاشة أخرى يخوض في سير عظماء رحلوا عن دنيانا فيتنقص هذا ، ويسب ذاك ، وقد تراه يصطنع لنفسه أدواراً يزعم أنه أداها . ويريد للناس أن يتقبلوا منه هذا الزعم علي أنه حقيقة .
وعلي شاشة خامسة تراه يتقمص شخصية زعيم ثائر فائر قاد الشعب بخطبه الحماسية في ثورات 1919 ، 1952 ، 2011 وهاجم الإنجليز والملوك والإقطاع والرأسماليين والعسكر المستبدين والمتشددين والدينيين والليبراليين والمفسدين …. فهو في كل العصور ، وعلى كل العهود ثائر فائر بلا هوادة ، لم يُخلق إلا لقيادة الجماهير وتوجيهها .
وأكثر ما يشدك إلي هذا النمط من البشر هو قدرته الفائقة على أداء حركتين متضادتين بقفزة واحدة . وقدرته على أن يضحك بإحدي عينيه ، ويبكي بالأخري بطريقة مؤثرة ، في ثانية واحدة ، وقد منحته هاتان القدرتان هالة من الرهبة وشيئاً من القداسة في قلوب العوام .
وأكثر ما يجذبك للاستماع إلى هذا النمط من البشر هو هذا الألق المبهر الذي يلمع في عينيه , وتضطرب له شفتاه ، ويرقص له أنفه ، وتهتز له أطراف أصابعه مشيراً بها هنا وهناك حيث يكذب ، فيصور لك الحق باطلاً ، والباطل حقاً ويستميت فى دفاعه عن الباطل بكذبات متتالية ، قاطعة ، صارمة ، حادة ، متسارعة يأخذ بعضها برقاب بعض .
وهو حين يكذب لا يخجل ولا يظهر عليه ما يظهر على الناس حين يكذبون من توتر واضطراب ، بل هو يكذب سعيداً ، متحمساً ، راضياً عن نفسه كل الرضا مقتنعاً بما يقول كل الاقتناع ، ولعلك إن شققت عن قلبه ستجد فيه من المرارة والكآبة والندم أضعاف ما تتخيل ، لأنه في النهاية : نمط … من البشر !!!
والطبيعي أن البشر – مهما تختلف أنماطهم ، ومهما تتنوع نماذجهم – يتألمون عندما يكذبون ، ويتألمون عندما يغشون ، ويتألمون عندما يخدعون الناس ، فإن كذبوا وغشوا وخدعوا ولم يتألموا فمن الصعب أن نتقبلهم على أنهم بشر ، بل لعل الصواب أن نرى فيهم آية من آيات الله ، وصورة من صور قدرته سبحانه على خلق أنماط من الحيوانات الخسيسة فى صورة إنسية بشرية !! .