أيهما له الأولوية الاقتصاد أم الحياة نفسها؟
بقلم/ د. علي عبد النبي
لم تكن المرة الأولى الذى ينتشر فيها وباء يحصد أرواح الملايين من البشر من على سطح كوكب الأرض، ولن تكون المرة الأخيرة.
البشرية عرفت الأوبئة من قديم الأزل. منها ماهو غير مسجل، ولكن القصص والحكايات القديمة تناولته بصورة توضح مدى فتكه بالبشرية. ومنها ما هو مسجل فى دفاتر أو فى صفحات الكتب. ومنها ما حدث فى التاريخ الحديث وعاصرناه.
فى التاريخ الحديث، العالم شهد العديد من الأوبئة، منها: فيروس سارس، وظهر فى عام 2002. وباء إنفلونزا الخنازير، وظهر فى عام 2009. فيروس ميرس، وظهر فى عام 2012. فيروس إيبولا، وظهر فى عام 2014 فى بعض بلدان غرب أفريقيا.
وبناء عن التاريخ غير المشرف للفيروسات التى أضرت بالبشرية، وتسببت فى وفاة الملايين. فإن حكومات الدول والمنظمات المعنية بصحة الإنسان ومنها منظمة الصحة العالمية، تمتلك خططاً وبرامج طوارئ لمواجهة إنتشار الأوبئة، سواء كان على المستوى الوطنى، أوعلى المستوى الدولى.
ونذكر أن الرئيس الأمريكى “باراك أوباما” فى ديسمبر 2014 ، قال “قد يأتى وقت يصيبنا فيروس يحمله الهواء ويكون مميتاً”، “وقد تكون سلالة جديدة من الأنفلونزا مثل الأنفلونزا الإسبانية”. وحذر من أن أمريكا بحاجة إلى الاستعداد لمواجهة الوباء القادم. كما نبه على أهمية بناء بنية تحتية للصحة العامة لمكافحة الوباء القادم، ليس فى أمريكا فقط، بل على المستوى العالمى، بحيث يمكن التعرف على الفيروس بسرعة، ويتم عزله بسرعة، والاستجابة السريعة للتعامل معه بفاعلية.
ومع سابق معرفة الحكومات بأهمية مكافحة الفيروسات، فالمنظومة الطبية وأجهزتها دائما فى حالة تأهب، بهدف العمل على الحد من انتشارها فى حالة ظهورها. لكن فى الحالة التى نحن نعايشها اليوم، نجد أن فيروس كورونا تفشى بسرعة البرق. فمنذ البداية ومع أول إصابة سجلت فى 17 نوفمبر 2019، فى مدينة “ووهان” الصينية، وحتى الآن، أدى إلى إصابة 3 ملايين و700 ألف شخص، وأدى إلى وفاة حوالى 258 ألف شخص.
ما هى الأسباب التى أدت إلى هذا الوضع المأساوى ؟، ومن المتسبب ؟، وما هى العقوبات التى ستقع على المتسبب ؟، ومن سيتولى محاكمة المتسبب ؟
كما ذكرت أن أول إصابة كانت فى 17 نوفمبر 2019 فى مدينة “ووهان” الصينية، وفى 1 ديسمبر 2019 رصدت أعراض الفيروس، وهى متاعب فى الرئة لعشرات الأشخاص فى مدينة “ووهان” الصينية. لكن جاء إعلان الصين حول تفشى الفيروس فى وقت متأخر، وكان غير مكتمل، ففى 31 ديسمبر 2019، أبلغت الصين منظمة الصحة العالمية بالمرض، لكنها أكدت أن هذا المرض غير معدٍ. وفى 31 ديسمبر 2019، أرسلت “تايوان” تحذيراً لمنظمة الصحة العالمية بشأن خطر انتقال الفيروس بين البشر، لكن هذا التحذير تجاهلته منظمة الصحة العالمية. وفى 21 يناير 2020، أعلنت الصين أن المرض معدٍ وينتقل بين الأشخاص. وفى 23 يناير 2020، أعلنت الصين عن اتخاذ إجراءات العزل المنزلى.
الكوارث لا تعرف حدود. فقد حشدت الصين موارد محلية ضخمة، وفرضت إجراءات شديدة الصرامة للسيطرة على فيروس كورونا فى مدينة “ووهان”، وتسترت على هذه الكارثة، ظنا منها أنها تتعامل مع كارثة محلية. وجاءت التقارير الأولية والتى صدرت من الصين عن كينونة الفيروس ضعيفة. وهذا يعود بنا بالذاكرة إلى كارثة المحطة النووية “تشرنوبل” فى 26 أبريل 1986، فى الإتحاد السوفييتى، وفى أوكرانيا، فقد كان التقرير الأولى حول الكارثة ضعيف، وتستروا على الكارثة، ظنا منهم أنهم يتعاملون مع كارثة محلية. لكن الاتحاد السوفييتى لم يتمكن فى حينه من السيطرة على المواد النووية المشعة التى انطلقت فى عنان السماء، وحملتها الرياح إلى الدول الأخرى، وفقد السيطرة فى النهاية على الموقف.
أمامنا الآن موقف الصين. فموقف الصين حمل كل سمات التستر على ما حدث، وأدى إلى تفشى الفيروس فى جميع دول العالم، وأصبح عابر للقارات. ففى الفترة التى تلت أول ظهور للفيروس وحتى اليوم الذي أعلنت فيه الصين عن اتخاذ إجراءات العزل المنزلى، غادر مدينة “ووهان” الصينية حوالى 7 مليون مسافر إلى دول العالم المختلفة، ومن بينهم أمريكا، وكان مطار “جون كينيدى” فى مدينة نيويورك له النصيب الأكبر من المسافرين إلى أمريكا. والآن أصبحت مدينة نيويورك، تتربع على عرش الصدارة بين مدن دول العالم المختلفة فى الاستحواذ على خسائر ونكبات فيروس كورونا، برصيد 172 ألف حالة إصابة، وأكثر من 13 ألف حالة وفاة حتى الآن.
أما موقف منظمة الصحة العالمية، وهى التى تجاهلت تحذيرات “تايوان” بشأن خطر انتقال الفيروس بين البشر، غير معروف. وهناك اتهامات من “ترامب أمريكا”، من أن المنظمة منحازة للصين، وظلت تردد ما تقوله الصين”، وذلك بعد مضى 6 أسابيع من اكتشاف أن المرض معدٍ من شخص إلى آخر. وهو ما أدى إلى تأخر الاستجابة العالمية للوقاية من تفشى الفيروس.
على الجانب الآخر، هناك رؤساء دول ورؤساء حكومات، هم دون المستوى فى تحمل مسؤولية دولهم. فمنهم من لا يمتلك الشجاعة على قول الحقيقة، ومنهم من لا يمتلك الحكمة، ومنهم المتغطرس والمتعالى والمتكبر والمستهتر بهذا الكائن الضئيل. كل هذا أدى إلى انتشار الفيروس فى بلده بطريقة دراماتيكية.
مع تفشى فيروس كورونا فى بريطانيا، أعلن رئيس الوزراء “بوريس جونسون”، اتباع أسلوب “مناعة القطيع”، وهو أسلوب مغاير لما اتبعته دول العالم فى مواجهة تفشى الفيروس. وهى السياسة التى تدعو إلى ترك الفيروس ينتشر بين الأشخاص، دون تطبيق سياسة التباعد الاجتماعى، والالتزام بعدم مغادرة المنازل. على أمل أن يكتسب الجسم مناعة طبيعية ضد الفيروس، من خلال تكوين أجسام مضادة تعمل على مكافحة انتشار الفيروس.
لكن سياسة “مناعة القطيع” ثبت فشلها، وذلك لعدم وجود لقاح مضاد حتى الآن، إلى جانب عدم اكتساب قطاع كبير من الأشخاص مناعة طبيعية ضد الفيروس تعمل على قتله وتحد من انتقاله للآخرين. فتراجعت بريطانيا عن اتباع سياسة “مناعة القطيع”، بعد أن تفشى الفيروس وسجل إصابات متعددة تقدر بالآلاف، وحصد أرواح العديد من الأشخاص، مما دفعها إلى تطبيق الإجراءات الاحترازية التي اتبعتها جميع الدول الأخرى، من فرض حظر التجوال، ومنع التجمعات، والإغلاق شبه الكامل. ولا ننسى أن رئيس الوزراء “بوريس جونسون”، قد أصيب بالفيروس وتم حجزه فى الحجر الصحى.
فى البرازيل، الرئيس “جايير بولسونارو”، وهو “ترامب البرازيل” ، أنكر الفيروس بداية، ثم حقّر من تأثيره ووصفه بأنه إنفلونزا بسيطة، وهاجم سياسات الإغلاق والتباعد الاجتماعى، ودعا إلى ممارسة الحياة على طبيعتها، حرصاً منه على اقتصاد الدولة، والذى كان مركز اهتمامه أكثر من أرواح شعبه “الاقتصاد أهم من صحة المواطنين”، وأقال وزير الصحة “مانديتا” الذى نصح المواطنين بالالتزام بالتباعد الآمن والعزل المنزلى. ومن تصريحات “ترامب البرازيل”، قال “فيروس كورونا قد يكون مميتاً لكن الجوع قاتل أيضاً”، وقال “الناس سيموتون أنا آسف، لكن لا يمكننا إيقاف مصنع سيارات بسبب وقوع حوادث مرورية”، وقال “إن الإغلاق لا يمكن أن يتحمله إقتصاد البرازيل لمدة شهرين” . مع تمسكه برأيه وتزايد أعداد المصابين يوميا، قرر حكام بعض الولايات البرازيلية إغلاق الأسواق، وفرض العزل الصحى. فى غضون شهر ارتفع عدد الإصابات، وباتت خارجة عن السيطرة. وعندما تجاوزت أعداد الحالات 100 ألف إصابة، تراجع “جايير بولسونارو”، وتغير خطابه، وقال “نعم، أنا آسف”.
فى أمريكا، لم يستجب “ترامب أمريكا” لنصائح وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية فى يناير 2020، والتى نبهت فيه عن طبيعة الفيروس، المنتشر فى “ووهان”، وعن احتمالات انتشاره فى دول العالم. فضلا عن الإجراءات المفروض أن تتخذها الحكومة الأمريكية لاحتواء تفشى هذا الفيروس. ومع بداية تفشى الفيروس فى أمريكا، هوًن “ترامب أمريكا” من شدة وقدرة الوباء على التفشى، ظنا منه أنه مع شهر أبريل سينتهى الوباء، حتى ازداد الوباء انتشاراً فى بلده. وشكل صدمة اجتماعية واقتصادية، لم تشهد لها أمريكا مثيلاً من قبل، وهو ما أدى إلى تفاقم الأزمة وزيادة شدتها وحدتها.
تزايدت أعداد الوفيات على مستوى الولايات الأمريكية. وفى مدينة نيويورك وحدها، وهى مركز الوباء فى أمريكا، عجزت المقابر عن استقبال مئات الجثث ودفنها فوراً، ولجأوا إلى التريلات البرادات “شاحنات نقل مبردات كبيرة” للتخزين طويل الأجل لضحايا فيروس كورونا.
نحن الآن أمام زعامات تسيطر على مقدرات العالم، ووضعت الأولوية للاقتصاد على حساب حياة الإنسان. هذا فى حد ذاته يدعو إلى المساءلة الدولية، فمن تكون بيده سلطة المحاكمة لكل من تستر على انتشار الفيروس، وكل من استهتر بالفيروس ؟، وهو ما يعتبر مجرماً فى حق البشرية وحق شعبه.
لكن رأى البعض، أن توقف العمل، سيؤدى لكارثة اقتصادية عالمية، لم يشهد لها العالم مثيلاً، إذ أعلنت منظمة العمل الدولية، أن حوالى 200 مليون عامل بالعالم، قد يخسرون وظائفهم، وستزداد معدلات البطالة، وسينتشر الفقر بين الناس.
اللهم اصرف عنا وعن شعب مصرالوباء، بلطفك يا لطيف، إنك على كل شىء قدير.