كتبت إيناس مقلد:
سأل سائل يقول:
ما حكم الحلف بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ وهل يجب بالحنث فيه كفارة؟
وأجاب فضيلة الشيخ الدكتور مجدي عاشور، المستشار الأكاديمي لمفتي الجمهورية وأمين الفتوى قائلا:
أولًا :
الحلف يقصد به الأيمان المؤكدة للخبر سواء في ثبوت الأشياء المحلوف عليها أو نفيها .
ثانيًا :
اتفق الفقهاء على أن الحلف بالله تعالى يعتبر يمينًا شرعية ، يجب بالحنث فيها كفارة .
واختلفوا في حكم الحلف بنبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فهو مكروه عند الحنفية تخريجا على كلامهم في الحلف بغير الله تعالى، وحكى ابن عابدين عن الْقُهُسْتَاني القول بالحرمة .
والمعتمد عند المالكية والشافعية أن هذا الحلف ليس بمحرم ، بل مكروه . وهو عند الثلاثة من لغو اليمين فلا يجب بالحنث فيه كفارة .
قال العلامة ابن عابدين في “حاشيته”: [مَطْلَبٌ فِي حُكْمِ الْحَلِفِ بِغَيْرِهِ تَعَالَى ( قَوْلُهُ وَهَلْ يُكْرَهُ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى إلَخْ ) قَالَ الزَّيْلَعِيُّ : وَالْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا مَشْرُوعٌ.. وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَمِينًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِحُصُولِ مَعْنَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْحَمْلُ أَوْ الْمَنْعُ.. وَالْيَمِينُ بِغَيْرِهِ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ الْبَعْضِ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِيهَا , وَعِنْدَ عَامَّتِهِمْ لا تُكْرَهُ لأَنَّهَا يَحْصُلُ بِهَا الْوَثِيقَةُ لا سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا , وَمَا رُوِيَ مِنْ النَّهْيِ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لا عَلَى وَجْهِ الْوَثِيقَةِ كَقَوْلِهِمْ وَأَبِيك وَلَعَمْرِي ا هـ وَنَحْوُهُ فِي الْفَتْحِ . وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْيَمِينَ بِغَيْرِهِ تَعَالَى تَارَةً يَحْصُلُ بِهَا الْوَثِيقَةُ : أَيْ اتِّثَاقُ الْخَصْمِ بِصِدْقِ الْحَالِفِ كَالتَّعْلِيقِ بِالطَّلاقِ وَالْعَتَاقِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ حَرْفُ الْقَسَمِ , وَتَارَةً لا يَحْصُلُ مِثْلُ وَأَبِيك وَلَعَمْرِي فَإِنَّهُ لا يَلْزَمُهُ بِالْحِنْثِ فِيهِ شَيْءٌ فَلا تَحْصُلُ بِهِ الْوَثِيقَةُ , بِخِلافِ التَّعْلِيقِ الْمَذْكُورِ وَالْحَدِيثُ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم ” { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ تَعَالَى } ” إلَخْ مَحْمُولٌ عِنْدَ الأَكْثَرِينَ عَلَى غَيْرِ التَّعْلِيقِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ اتِّفَاقًا لِمَا فِيهِ مِنْ مُشَارَكَةِ الْمُقْسَمِ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي التَّعْظِيمِ]
وقال الشيخ الدردير في “الشرح الصغير 1/ 330”: [وَلا بِنَحْوِ النَّبِيِّ وَالْكَعْبَةِ ) مِنْ كُلِّ مَا عَظَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لا يَنْعَقِدُ بِهِ يَمِينٌ , وَفِي حُرْمَةِ الْحَلِفِ بِذَلِكَ وَكَرَاهَتِهِ قَوْلانِ]، قال العلامة الصاوي عليه: [قَوْلُهُ: “قَوْلانِ” الْمُعْتَمَدُ مِنْهُمَا الْكَرَاهَةُ]
وقال ابن حجر الهيتمي في “تحفة المحتاج 10/ 4” :[فلا تنعقد بمخلوق: كنبي وملك للنهي الصحيح عن الحلف بالآباء.. وحملوه على ما إذا قصد تعظيمه كتعظيم الله تعالى، فإن لم يقصد ذلك أثم عند أكثر أصحابنا أي: تبعا لنص الشافعي الصريح فيه، كذا قاله شارح.
والذي في شرح مسلم عن أكثر الأصحاب الكراهة وهو المعتمد وإن كان الدليل ظاهرا في الإثم… وقال ابن الصلاح: يكره بماله حرمة شرعا كالنبي ويحرم بما لا حرمة له كالطلاق]
وذهب الإمام أحمد إلى أنه ينعقد به يمين شرعية موجبة للكفارة ، وعليه المذهب ، وقال به أكثر علماء الحنابلة ، وقد استدلَّ لذلك بأنه أحد ركني الشهادة كاسم الله تعالى ، فهو من باب تعظيمه بتعظيم الله له ، كما حمل محققو المذهب قول الإمام أحمد على استحباب الكفارة لا وجوبها .
قال الإمام ابن قُدَامة في “المغني 9/ 514-515”: [قال أصحابنا: الحلف برسول الله صلى الله عليه وسلم يمين موجبة للكفارة. وروي عن أحمد أنه قال: إذا حلف بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنث، فعليه الكفارة. قال أصحابنا: لأنه أحد شرطي الشهادة، فالحلف به موجب للكفارة، كالحلف باسم الله تعالى… وكلام أحمد في هذا يحمل على الاستحباب دون الإيجاب]
قال العلامة المرداوي في “الإنصاف 11/ 14-15″: [وأما الحلف برسول الله صلى الله عليه وسلم : فقدم المصنف هنا: عدم وجوب الكفارة . وهو اختياره . واختاره أيضا الشارح، وابن منجا في شرحه، والشيخ تقي الدين رحمه الله. وجزم به في الوجيز . وقال أصحابنا: تجب الكفارة بالحلف برسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة. وهو المذهب. وعليه جماهير الأصحاب. قال في الفروع: اختاره الأكثر، وقدمه. وروي عن الإمام أحمد رحمه الله مثله. وهو من مفردات المذهب. وحمل المصنف ما روي عن الإمام أحمد رحمه الله على الاستحباب].
ثالثًا :
حمل المحققون النهي عن الحلف بغير الله تعالى على ما قُصد به حقيقة الحلف، أما إذا كان على سبيل العادة أو الترجي أو تأكيد الكلام فجائز ولا حرج فيه، وذلك لوروده في الأدلة الشرعيَّة والتي منها حديث الرجل النجدي الذي سأل عن الإسلام.. وفي آخره: فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ» أَوْ «دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ» (صحيح مسلم/ 11).
والخلاصة:
أن الحلف بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقصد حقيقة اليمين أمر يدور الحكم فيه بين الحرمة عند بعض الأحناف والكراهة عند بعضهم ولم ينصوا أهي كراهة تنزيه أم تحريم على مصطلحهم ، وهو مكروه عند المالكية والشافعية في المعتمد لديهما وفي قول لأحمد .. والجواز هو المعتمد عند الحنابلة .
ومع ذلك فالخروج من الخلاف مستحب ، ويتم ذلك بتعليم الناس وليس بتبديعهم أو تكفيرهم بسبب ظاهر الحديث .. ولا نؤثمهم لأن القول بالحرمة هو قول من الأقوال . والقاعدة أنه : ” لا يُنْكَرُ المختَلَف فيه ” .
أما إذا كان على سبيل جريان العادة التي يقصد بها الترجي أو تأكيد الكلام لا حقيقة الحلف، فهو أمر جائز ولا حرج فيه باتفاق ؛ إذ قد ورد في نصوص السنة الشريفة وكلام السلف الصالح.