الوقاية خير من العلاج
بقلم الدكتور/ حسني التلاوي
وكيل كلية الدراسات الإسلامية والعربية
جامعة الأزهر بالقاهرة
الحمد لله رب العالمين، قال في محكم التنزيل:
(وكذلك أنزلناه حكما عربيا، ولئن اتبعتَ أهواءهم بعد ما جاءك من العلم، ما لك من الله من ولي ولا واق).
فمن أين تأتي الوقاية إذا لم يأت بها الله عز وجل؟!
وقال سبحانه:
(وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله، إن الله شديدُ العقاب).
وقال سبحانه:
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم).
والنبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرا ما سأل ربه العافية.
وقال في دعائه الشريف:
(اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري..).
ولا تظنَّنَّ -أخي المسلم- أنّ المعنى: أن كلا من الوقاية والعلاج فيه خير، وأن الخير الذي في الوقاية أكثرُ من الخير الذي في العلاج، بل إن العاقل لَيَرَى أن الوقاية هي التي يجب أن تكون، بديلا سهلا ميسورا مريحا، غير مجهِد ولا مكلِّف، وليس كذلك العلاج.
فكفى (الوقاية) سهولةً أنك تقوم بها بنفسك، لا تحتاج إلى معاون، ولا تحتاج إلى طبيب، ولا تحتاج إلى مكانٍ في المستشفيات، ولا تحتاج إلى حجر أو عزل عن أهلك والناس.
فلِمَ لا نأخذُ بالوقاية استهزاءً واستهتارًا بها؟؟!!
لا تخرج -أيها العاقلُ- من بيتك إلا للضرورة، وإذا خرجتَ فلا تتزاحمْ، وخذْ بكل الاحتياطات اللازمة، ضع كمامتَك على أنفك وفمك، ولا تَكْتَفِ بوضعها على ذقنك ولِحيتك، ابتعد وأنت تحادث غيرَك عنه، احرص على فتح جميع النوافذ إذا ما كنتَ في مكانٍ فيه جمعٌ من الناس، حتى الجمعة والجماعات، إذا لم يكن لك مكانٌ في المسجد بعد تطبيق التباعد والأخذ بطرق السلامة فلا عليك إذا صليتَهما في بيتك.
إن ديننا الإسلامي الحنيف، قد جاء لجلب المصالح والمنافع للبشرية جمعاء، ولكن إذا تعارضت مصلحة مع مفسدة، فإن درءَ المفسدة مُقَدّمٌ على جلب المصلحة.
لقد عُني الإسلام بالوقاية من الأضرار خير اعتناء:
من ذلك قوله تعالى:
(ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين).
والنبي –صلى الله عليه وسلم- يقول:
(ومن أكلَ فما تخلَّلَ فلْيَلْفِظْ).
بقايا الطعام العالقة بين أسنانك لا تستخرجْها ثم تبلعها، بل استخرجها والفظها.
ومن الوقاية التي نبهنا ديننا القويم عليها قوله –صلى الله عليه وسلم-:
(إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يضع يده في الإناء حتى يغسلها، فإنه لا يدري أين باتت يده).
وفي روايةٍ:
(فليفرغْ على يده ثلاث مرات قبل أن يُدخلها الإناء).
ومع هذا الحديث وقفةٌ قصيرة، وهي أنه -صلى- لم يقل:
(إذا استيقظ أحدكم فلينظر في حال يده، إن كانت قد أصابها أذى أو نجاسة فلْيَغسلْها، وإلا فلا).
بل قال: (فليغسلها) مطلقا وعلى كل حال؛ أخذا بالاحتياط، وبما هو أولى، فلِمَ لا نأخذُ بالاحتياط مع فيروس كورونا الخطير الفتاك وغيره؟!
بقدر ما في الفعل من المخاطر، يكون اهتمام القرآن الكريم بالنهي عنه، وقاية وحماية للبشرية جمعاء، انظر إلى الوقاية التي اهتم بها القرآن الكريم في قوله سبحانه:
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ – نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).
لم يقل (فيه أذى)، ولم يقل: (هو مُؤْذٍ)…، بل قال: (هو أذى)، هو الأذى نفسه، وما دام كذلك فلن تستطيع أن تُحصِيَ ما يُؤذي المرأةَ من الأضرار المترتبة عليه إذا لم يَعتزلْها زوجها فيه، والرجلُ كذلك، والمولود التي تلده لن يسلم من الأذى بالتبعية والاستلزام؛ وهذا نتيجة مسلَّمة بعد إصابة والديه بتلك الأضرار التي لا يعلم خطرها ولا أنواعها إلا الله عز وجلّ.
لم يتركنا ديننا القويم بدون نصح، بل أرشدنا إلى الوقاية من هذه المخاطر.
انظروا إلى شدة التحذير للوقاية من هذا الضرر الجسيم، (هو أذى)، (فاعتزلوا النساء في المحيض) لم يقل: (فاعتزلوا النساء فيه) حتى لا يُظنّ أن المراد (اعتزلوا النساء في الأذى)!، (ولا تقربوهن حتى يطهرن)، أي: حتى ينقطع الدم، وهذا لا يكفي، بل على الزوجة أن تتطهر بكل ما يمكنها، لذلك لم يقل (فإذا طَهُرنَ)، وإنما قال: (فإذا تطهرن)، أي: قمنَ بالاغتسال والنظافة بكل ما يمكنهنّ، بعد انقطاع الدم.
ثم قال:
(من حيث أمركم الله)، فكيف إذا ترك مكان الحرث إلى مكان الفَرث؟!
إن المستهترين بالمخاطر إذا أُصيبوا، فلا يلومُنَّ إلا أنفسهم.
ومع ذلك:
يجب علينا أن نحسِّن علاقتنا بالله -عز وجل- ليعيننا ويأخذ بأيدينا إلى الوقاية من كل ما يضرنا، ومن كل ما يُغضبه علينا، وإذا أصابنا مكروه، ودعوناه يستجيب لنا ويكشفه عنا.