تقنيات الاتصال بين القوة الناعمة للقدوة وتصدير القدوة الملتبسة للشباب
البحث عن خارطة طريق
بقلم/ د. سهير صفوت
أستاذ علم الاجتماع المساعد كلية التربية جامعة عين شمس
“قل لي من قدوتك، أقل لك من أنت”. الحديث عن القدوة هو بالضرورة حديث عن المثال والنموذج الذي يُحتذى به في الحياة العملية في جانب السلوك والتصرفات وخصوصاً في المواقف الصعبة التي تستدعي الثبات على المبادئ ومطابقة الأقوال للأفعال، فالصدق مع النفس والآخرين من أهم الصفات التي تميز القدوة، والتي يمكن أن تؤثر أبلغ الأثر على حياة الأفراد والمجتمعات.
كثير من الأفكار والقيم والسلوكيات تنتقل إلى الآخرين عن طريق القدوات فالإنسان بطبعه ميال للتقليد والمحاكاة، ولا سيما في مراحل حياته الأولى، ولذا يقول المختصون إن 70% من المهارات والمعلومات التي يكتسبها الطفل تكون من خلال التقليد والمحاكاة، ومن هنا ندرك أهمية القدوة إن كانت صالحة، وخطورتها إن لم تكن كذلك.
“ويحضرني هنا قصة أم ذهبت بطفلها لطبيبِ نفسي تشكو كذب طفلها المتزايد، فرنّ الهاتف وهي بالعيادة. فردّت وقالت لمن يتصل بها: آسفة، أنا بالسوق! فقال لها الدكتور: خَميرهُ فاسدهَ عجينتهآ فاسدهَ”
إن القدوة تعني المثل الأعلى أو الرمز، الذي يستطيع أن يؤثر في الفرد، وبالتالي في بناء مجتمع مثالي، وغياب هذه القدوة يؤدي إلى انفلات في كثير من معايير المجتمع وأخلاقه، وبالتالي إلى تدميره وضياعه. فوجود القدوة قاعدة بناء مهمة في تكوين الفرد، فهي التي نتخذها نموذجاً لأفعالنا وأقوالنا، وتحدد نوع ومسار حياتنا، بل وتشكّل رؤيتنا ورسالتنا وأهدافنا في الحياة، وبالتالي نوع مُنجزاتنا.
تتشكل القدوة في أجواء القيم والإنسان لديه استعداد للانحراف مثلما هو على استعداد للرقي والتكامل.
وهذا الأمر منوط بالبيئة التي يعيش فيها وبالتربية التي يتلقاها، فإما أن تأخذه هذه التربية ومعها القدوة المرتبطة بها بعيداً نحو الانحراف واما أن تدفعه قدماً نحو الرقي والتقدم والتكامل.
والقدوة ليست دائماً شخصاً نقتدي به، وقد يتغير بحسب الظروف والمراحل. فهي قد تكون أيضاً فكرة دينية أو سياسية يحملها الانسان ويتأثر بها ويحاول تقليدها والعيش وفقاً لمقتضياتها.
وقد يتبناها الانسان ثم يتخلى عنها الى فكرة أخرى، فيغير طريقته في التفكير، وفي التصرف، والملاحظ أن القدوة هي الإبرة المكسورة في بوصلة الشباب؛ فقدوة الشباب شهدت تحوّلات كبيرة خلال السنوات الأخيرة، بتأثير مباشر من الإعلام الجديد، في مقابل تراجع الوسائل التثقيفية، وأضحت التقنيات الحديثة تحدد الهوية، والتوجهات، ويختار النموذج بالنسبة للشباب الناشئ.
فاليوم مع تطور الحياة وقضاء أغلب أوقاتنا أمام شاشات هواتفنا أصبح شبابنا يجدون قدواتهم أون لاين فهذه تتابع الـ(فاشنيستا) فلانة وذاك يتابع الـ(يوتيوبر) فلان علماً أن فلان وفلانة لا يمتون للمتابع بصلة؛ لا هم من بيئته ولا دينه ولا لغته حتى!! إذن كيف وصل فلان هذا أو ذاك لمنزلة القدوة في نظر شبابنا؟!
ببساطة هؤلاء “المشاهير” إن صح التعبير مخلصين في عملهم جداً فمثلاً تجدها تقضي معظم نهارها في تصوير مقطع فيديو مدته لا تتجاوز العشر دقائق تعلم متابعيها طريقة (الميك أب) الفلانية وتجرب لهم أون لاين الماركات الجديدة بعد أن بحثت عن أفضلها جودة أو تنصحهم بالأقل سعراً…الخ، وهكذا يجد الشاب والشابة هؤلاء مخلصين في عملهم ويتطابق قولهم وفعلهم، فتبنى مع مرور الوقت قاعدة ثقة بينهم وبين متابعيهم، وهو ما يعبر عن قوة القدوة الناعمة التي تتسلل إليهم بهدوء وتدريجاً، ومن دون أي ضجيج من خلال تقنيات الاتصال التي لا تتوقف عن البث طوال ساعات اليوم، وهي لا تقدم القدوة غالباً بشكل مباشر، بل تتشكل عناصر هذه القدوة من خلال التكرار والإيحاءات والصور التي تتحول بمرور الوقت الى قدوة.
ومصدر هذه الخطورة هو في ما يمكن ان نسميه التسلل الهادئ والناعم للأفكار وللنماذج التي تتحول بمرور الوقت ومن خلال التكرار إلى قيم جديدة يقتدون بها فتغير ليس فقط من طريقة تفكيرهم بل من طريقة تصرفهم في الحياة. على عكس القدوات الحياتية الصالحة إن وجدت فستكون متبجحة بالكلام عن الصواب والخطأ ولا يتعدى الكلام كونه كلاماً، فالقدوة التي نحن في صدد صناعتها يجب أن تكون عملية وأكثر مرونة في سلوكياتها ويتطابق قولها مع فعلها قدر الإمكان حتي لا تفقد القدوة الواقعية مصداقيتها وتُلتبس في أذهان الشباب.
إن الجانب الأشد خطورة في ما نطلق عليه “القدوة الملتبسة”، ليس تلك الصلة بين شباب اليوم وبين تقنيات الاتصال الحديثة التي جعلت قدوتهم المرجعية في جوانب كثيرة من حياتهم غير واضحة تماماً.
بل تكمن الخطورة في حصول ذلك الالتباس في مجتمعنا نفسه عندما نقدم نموذجاً فكرياً أو سياسياً أو دينياً أو سلوكياً ولا نلتزم تماماً بما يفترضه هذا النموذج.
حينما يشاهد الشاب ممن هم في مجال القدوة يتصرفون بمثالية شديدة علي صفحات التواصل الاجتماعي لكن يلمسونهم في الواقع وقد أضحوا مغاييرين تماما لهذا الواقع، فكم من قدوة أعلنت الزهد أو التواضع أو التضحية علي صفحات التواصل الاجتماعي على سبيل المثال تحولوا الى حب التملك وحب الشهرة وإلى التعلق بالمكانة الاجتماعية واقعياً. لكنهم استمروا في الحديث مع الناس وفي الكتابة عن فضيلة الزهد وعن قيمة التواضع.
وكم من هيئة مدنية ترفع شعار محاربة الفساد، وتحوم حولها الشبهات والتهم. لذلك ينشأ الالتباس من التداخل الذي يحدث بين “الصح والخطأً أو بين الحق والباطل”، بين ما يدعو إليه هؤلاء من حق، وبين ما يمارسونه من باطل أو من خطأ،ً بين ما يقولون وبين ما يفعلون في الوقت نفسه، وحتى بين ما يقوله بعضهم وما يفعله البعض الآخر في المجتمع مما يفقد القدوة مصداقيتها.
عندما تبلغ القدوة هذه الحالة تصبح “قدوة ملتبسة”، وتفقد تدريجيا البريق الذي كان لها، ولكن من دون أن تفقد تماماً الاقتداء بها. مما يجعلها مساراً جديداً لصناعة نماذج شابة تحمل نفس الصفات السيئة وهذا جوهر الالتباس.
إن صناعة القدوات الجيدة يتطلب أن نكون على وعي تام بأثرها القريب والبعيد في المجتمع، ووعي أيضاً بأن القدوة السيئة تعمل على إضعاف المجتمعات وتغييب المصالح العامة وتغليب الشخصية منها، وظهور الأنانية التي تتفشى بسرعة كالوباء الذي يفتك دون رحمة، فإذا كانت وردة واحدة تكفي لميلاد الربيع؛ فقدوة واحدة قد تهدي الجميع، وذلك حينما نزرع في القدوة روح الاقتداء.
لذلك علينا أن نغيّب الاحتكار ونظهر الإيثار، ونعظّم الإيجابي من العمل ونقضي على السلبيات، ونعزز كل ما هو مفيد وقيّم.
علينا أن ندرك أن صناعة القدوة الجيدة وحمايتها قد تنقذ وطناً وتلهم أمّة وتصنع فارقاً. علينا صناعة نموذج يمتاز بالتوسط في أمور حياته من مأكل وملبس وسلوكيات وعلاقات اجتماعية ضمن الحدود المسموح بها والمنطقية مع قليل مبالغة في كل نموذج على حدة لضمان عنصر الإنبهار وذلك من خلال تسليط الأضواء على ميزة والتركيز عليها مثل موهبة معينة مثلاً، وهكذا لا يشعر الشباب بأنهم إذا ما تابعوا أو اقتدوا بهذه القدوة الصالحة اضطروا إلى الاستغناء عن بعض المميزات؛ بل على العكس نجعلهم يشعرون أنهم حصلوا على أكثر منها.
إن غياب قدوات كهذه تجعل مجتمعاتنا تائهة ينال منها التقليد الأعمى وتتمكن مجتمعات أخرى من إغراقها ثقافياً وطمس هويتها والسيطرة عليها تماماً.
وإذا أردنا تقدما حقيقيا لمجتمعنا، فعلى كل مؤسسات صناعة الوعى فى مجتمعنا أن تضع موضوع القدوة على رأس أولوياتها، فتُعلى القدوات الصالحة الحقيقية التى تبنى وتعمر وتكد وتكدح من أجل رفعة وطنها وأمتها؛ تبذل الغالى والنفيس فى هذا المضمار بدل هذه النماذج الهشة والتافهة التى تنشر التلوث القيمى والأخلاقى والسمعى والبصرى والذوقى وكل أشكال التلوث.
لا تقدموهم، وارحموا الأجيال الناشئة من هذا التلوث. لا تصدورا هذا الانحلال القيمى والأخلاقى للأجيال الجديدة. إن القدوة الصالحة من أعظم المعينات على بناء الأخلاق والعادات والسلوكيات الطيبة لدى المجتمع.
قد لا يمتثل الفرد للتوجيه والخطاب لكنه يقتنع ويتأسى بأفعال القدوة حين يراها ولو دون توجيه له بفعلها.
ولعل هذا الأمر من خصائص السلوك البشري الذي لا يُقبل على أي عادة أو فكرة غالبا إلا بعد أن يدرك كونها حقيقة وواقعية.
وقديما قالوا: “عمل رجل في ألف رجل؛ خير من قول ألف رجل في رجل”.