الاختيارات الإلهية الخاصة معلمة وملهمة
د. محمد السعيد عبد المؤمن
أستاذ الدراسات الإيرانية
لماذا اتخذ الله إيراهيم خليلا؟ لماذا اتخذ الله موسى كليما، لماذا أرسل الله محمدا رحمة للعالمين؟ انتقاء خاص من خلال أسباب خاصة، لو تأملنا هذه الأسباب لكان لزاما علينا أن نقتدي بها في اختياراتنا، وفي علاقاتنا.
لو تأملنا قصة حياة إبراهيم عليه السلام، وكيف تعرف على ربه لظهرت لنا أسباب اختياره خليلا لله، وقد جمعها الرسول الكريم في خاصية واحدة تميز بها أبوه إبراهيم، فقال: المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل!
الخل أعمق علاقة من الصديق، أو هو كما في العامية الصديق الأنتيم، هو الأقرب للنفس، أو هو في الغالب صديق الطفولة البريئة التي لم يعكرها وجه من أوجه الفساد، سواء كان في المدرسة أو الجوار، فتتلاقى الأرواح دون الشوائب، وما كان من علاقة إبراهيم عليه السلام بربه بعد معرفته كان دعما لتلك العلاقة، فإذا ألقي إبراهيم في النار ويأتيه جبريل لينقذه، فيرفض مساعدته، وإذا سأله ألك من الله حاجة؟ قال علمه بحالي يغني عن سؤالي!
أما الكليم فهو من يتحدث بالعقل والخير فيرضي الله ويُرضي محدثه، ويَرضى من محدثه، وتاريخ علاقة موسى عليه السلام بالله توضح أسباب اختيار الله له كليما، في أسلوب حديثه إلى الله بالمنطق والوعي، وللخير والمصلحة الخالصة من الهوى، وهو ما يزيد من الحب والقرب، حتى عندما طلب أن يرى الله! وحتى عندما أرسله الله لفرعون! وعندما أرسله إلى العبد الصالح.
أما اختيار محمد عليه السلام ليرسله رحمة للعالمين فقد كانت أسبابه في صفات الرسول الكريم، لا ترسل أحدا لهدف ما وهو لا يتمتع بالصفات التي تجعله يحقق الهدف!
وبنظرة فاحصة على واقعنا، نكتشف أن من أهم مشاكلنا في مصر والعالم العربي الالتزام برد الفعل وليس بالمبادرة، رد الفعل أضعف كثيرا وأقل حيلة وأضيق مجالا من المبادرة، ورد الفعل انفعالي وليس فكريا، أما المبادرة فيتم التخطيط لها، ودراسة أبعادها، وإمكانية تحجيم رد فعلها. المبادرة أمر بها الله، بل وصفها بالسبق، أما رد الفعل فقد سخر منه.
كيف نهمل أوامر الله في تسيير شئوننا، ونتقاعس عن ما فيه خيرنا في الدنيا والآخرة، لماذا نضع ما حبانا الله من نعم خلف ظهورنا، ونسير وراء قطرات ماء المسيخ الدجال؟!
المبادرة تخرجنا من الأزمة إلى الرشاد، لأنها فكر وتخطيط وسرعة في الأداء، إرباك للعدو وتقليل خياراته، وإفساد حساباته. السبق في أمور الدنيا بالفكر والتخطيط وهداية الدين سبق في الآخرة إلى نعيم الله. السابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم.
وأيضًا نكتشف أن اللهجة المخلوطة فضلا عن سوء استخدام اللغة، سواء العربية أو الفارسیة أو غيرها، دليل على الخلط في المفاهيم والقيم، فعندما كانت اللهجة المصرية مثلا أفصح اللهجات العربية استطعنا أن نُفهم العرب رسالتنا، بل وعلمناهم إياها، فتحقق لمصر لقب الكنانة، وتحققت ريادة الثقافة المصرية في إطار الوحدة القومية، والأكثر من هذا حفاظنا على الهوية الوطنية والقومية، لكن تسولنا على موائد اللغة الإنجليزية واللكنة الأمريكية أعجم لساننا، فلم يعد أحد يفهمنا ولم نفهم بعضنا، وصار هذا دليلا على الضعف والتبعية.
اللغة دائما وفي أي زمان ومكان دليل ثقافة الشعوب وعلامة تفوقهم الفكري، لأنها البوتقة التي ينصهر فيها كل ما يتعلق بالإنسان من حضارة وثقافة. إن الذي لم نفهمه أن ترويج اللغة الإنجليزية باللكنة الأمريكية ترويج لثقافة التمزق والانحلال، وليس ترويجا للعلم المتقدم، فصناعة العلم لها آلياتها، ونقل العلم ليس نقل اصطلاحات جوفاء، بل نقل روح النظرية وروح الدراسة وروح الابتكار بتعبير بسيط مفهوم.
اللغة العربية لغة قوية تستطيع أن تستوعب العلوم والتقنيات، كما استوعبت كلام العليم الحكيم الذي أنزل قرآنا عربيا مفصلا ضرب فيه من كل مثل لعلكم تعقلون. تعريب العلوم ليس هو القضية، وإنما فهم العلوم بمنطق عربي هو القضية الحقيقية، لأنه يتوقف على هذا الفهم حسن استخدامها.