كتب – ناصر النوبي:
انطلق ملتقى الشربيني الثقافي مساء الخميس الماضي بشارع الألفي بوسط البلد بالقاهرة بحضور ناصر النوبي ويم سويلم وسعيد العسيلي ومحمود الشربيني كمال زاخر ومحمد فرج ومسعود شومان ومحمد السيد إسماعيل ونبيل عمر.
وقال الكاتب كمال زاخر إنه ينتمي إلى جيل التجارب، منوهاً بأهمية الصالونات الأدبية وتأثيرها الكبير في إشعال ذروة الوعي في المجتمع، كما تحدث عن الثورة التي صنعها العالم الافتراضي وتأثيرها على جيل الكتابة التقليدية، مشدداً علي أن الزمان اختلف، وفرض التطور التكنولوجي نفسه بقوة، وأكد أن بناء الثقة يحتاج إلى آليات منها الثقافة والحوار وما قصص يوسف إدريس واحسان عبد القدوس إلا رسائل وعادة ما تظهر الرسائل في الأدب مع انخفاض سقف الحرية.
واعتبر الثقافة رئة تنفس وهي مرتبطة بالأوبرا والمسرح والكتابة والإذاعة والتليفزيون والعمل الحزبي.
ومن آليات بناء الثقة الإعلام، والإعلام الحالي “بعافية” بحسب طبيعة المراحل الانتقالية. أما الآلية الثالثة فتتمثل في التعليم وفيه تكمن الخطورة مع هذا التعدد غير الطبيعي في أنظمته.
وقال الكاتب والسياسي محمد فرج إنه قد دخل السياسة من خلال الثقافة وذكر أنه توجد حالة من الفراغ السياسي ولا بد من سد فجوة هذا الفراغ، وحول كيفية الدور الذي يقوم الأدب والفن في سد هذا الفراغ قال: “لابد من تعديل صيغة السؤال، فنحن نعيش فراغا ثقافيا هو المتسبب في الفراغ السياسي ويجب علينا التوصيف بدقة ورد المسألة لأصلها، ويجب أن نعترف أن النخب لديها مشكلة وأننا لم نطرق بعد باب الحداثة، وأن الثقافة السائدة ليست ثقافة الدولة المدنية بقدر ما هي ثقافة الطائفية”.
وأضاف: النخبة الثقافية تأتيها فرص كثيرة ولكنها تهدرها بحرص المثقف على لعب الدور السياسي لا الثقافي، فبعض المثقفين يريدون أن يصبحوا قادة سياسة، وأشار إلى الدور الثقافي الذي يجب أن تلعبه الأحزاب السياسية، وأعطى نموذجآ لحزب التجمع الذي يعد نموذجآ إذ اهتم بالجانب الثقافي وكان دائماً مدركاً لأهمية هذا الدور، فأصدر مجلة أدب ونقد وينظم مهرجاناً سنوياً للسينما القصيرة منذ سنوات.
وقال: لدينا تنويريون كثيرون لكن ليست لدينا حركة تنوير، ونحن بحاجة إلى ترسيخ فكرة التنظيم والعمل الجماعي. وشدد على أهمية تركيز الأحزاب علي العمل الثقافي، بحيث يكون نصف عملها منصرفاً للشأن الثقافي وربعه للشأن المجتمعي وربعه الآخر للشأن السياسي.
ورأى أنه لو تم حل مشكلات الثقافة أولا فسوف يتم ملء كل الفراغات لأن الثقافة مطلوبة وضرورية ودورها مهم وفاعل في كل الأوقات، وهي أيضا مستويات وخطابات متنوعة.
وقال إنه لا يرى أحزابا سياسية بالمعنى الحزبي إلا في حزبي التجمع والوفد أما الباقون فمجرد تجمعات إنتخابية، وهذه التجمعات هي إحدي سمات المراحل الانتقالية بين الثورات التي يكثر فيها الأمور المختلطة والصراعات الظاهرة والخفية، وحذر من الفراغ الثقافي لأن معنى وجوده التسبب في إعادة “جماعة الإخوان” إلي المشهد من جديد.
وأكد الشاعر مسعود شومان رئيس تحرير مجلة الثقافة الجديدة أنه لا جدوى من رؤية لا تلتفت لمنظومة قيم الجماعة، وتعجب من إهمال الرؤى التي تستعيد التراث والمأثور الشعبي، وطالب بضرورة الوعي بعادات الناس وضرورة ربطهم بثقافة المكان وأنه بمقدورنا حل كثير من المشكلات بفهم ثقافة الناس وتساءل شومان: متى ندرس العادات والتقاليد المصرية في مدارسنا؟ ومتى يدرس الطلاب الأنواع الشعرية الشعبية؟ معقبا: يا لها من مأساة كبرى ألا ندرس ما نمتلك، كما طالب بضرورة إعادة وصف مصر الآن، وأن تضع الدولة المصرية خطة لزيارة المتاحف المتنوعة وما أكثرها لتنمية الوعي لدى أولادنا.
ووصف الدكتور محمد السيد إسماعيل العلاقة بين المثقف والسلطة بالعلاقة الإشكالية وذلك لأن الشعر حسب قوله يسعى لتحقيق الحلم وتغيير الواقع البائس بينما السلطة هي طبقا لتعريف السياسة فن إدارة الممكن كما وصفها بالعلاقة المتداخلة فكل منهما يسعيان – كل بطريقته- إلى كسب الرأي العام ومن هنا يأتي الصدام والقمع والمطاردة.
وذكر أن القبيلة كانت في العصر الجاهلي أشبه بالدولة التي تحتوي شعراءها المدافعين عنها وتقصي الشعراء الخارجين عليها، مثل الصعاليك الذين شكلوا – إبداعا ونضالا- أول حركة تمرد اجتماعي في مواجهة سادة القبائل.
وفي صدر الإسلام نجد شعراء الدعوة في مواجهة الشعراء المشركين، أما في العصر الأموي ظهر ما يقترب من الأحزاب السياسية لكل فرقة شعراؤها بالإضافة لشعراء البيت الأموي المدافعين عنه.
وأضاف أن المدرسة الرومانسية جاءت ثمرة من ثمار ثورة ١٩ لتؤكد فردية الشاعر وخصوصية حريته في أن يكون صوت ذاته لا صوت الأخرين، وبعد الحرب العالمية الثانية سادت الواقعية وأصبح الالتزام طفل الماركسية المدلل ورفع لويس عوض شعار “الشعر للحياة” وتلبست صلاح عبد الصبور شهوة إصلاح العالم، وأصبحت ثنائية السلطة والحرية إحدى ثنائيات أمل دنقل الذي لقب بأمير شعراء الرفض.
لكن محمد عفيفي مطر رفض هذه الثنائية رغم بعض قصائده المتمردة وصب اهتمامه بثقافة القرية المصرية وتقاليدها وعاداتها.
وخلص الدكتور محمد السيد إسماعيل إلى أن علاقة الشعر بالسلطة تأخذ أنماطاً خمسة : نمط الصمت، ونمط التعريض، ونمط الغزل الكيدي، ونمط الهجاء الصريح.
أما الشاعر والإذاعي السيد حسن فقد جاء حديثه مشخصاً القضية ما بين نقص” القدرة أو الإرادة”وتساءل في بداية مداخلته :
هل نعاني من فراغ ثقافي؟ وجاءت إجابته : يقينا لا، فلدينا مثقفون وشعراء وكتاب على أعلى مستوى ولكننا نعاني من إزاحة المثقف من المشهد بصفة شبه دائمة، ونعاني تهميش فكرة الثقافة من المعادلة المصرية في هذه المرحلة.
ثم استشهد ببعض النماذج التي توضح مدى التفاوت الكبير الذي حدث بين واقعنا الثقافي اليوم والواقع الثقافي في الأمس القريب قائلا: “بعد أن كان نجوم المجتمع المصري ( عميد الأدب العربي، وعملاق الأدب العربي، وأحمد حسن الزيات، ود. حسين هيكل، ويوسف السباعي، وعبد الرحمن الشرقاوي، ونعمان عاشور الخ) أصبح نجوم المجتمع الآن من تحدث عنهم الدكتور كمال زاخر، في إشارة منه لمعدومي الكفاءة وأنصاف المواهب.
ثم عقب على النقاط أو القضايا الثلاثة الرئيسية موضوع نقاش من سبقوه بالحوار وهي قضايا ( الثقافة والإعلام والتعليم) مؤكدا أنها قضايا مهمة وحرجة وحيوية ولكن يجب طرح السؤال: هل الخلل في القدرة أو في الإرادة؟ وأرجع إجابته إلي عدم توفر الإرادة وليس القدرة.
ورغم أنه عنصر فاعل ووجه ثقافي ساطع داخل الإذاعة المصرية كونه يشغل منصب المدير العام للبرامج الثقافية بالإذاعة المصرية قال بصراحته المعهودة: ما يحدث داخل مبنى ماسبيرو يحمل إشارات ودوال على أننا نفتقد الإرادة لتقديم ثقافة جادة وفاعلة ومؤثرة، وفي إجابته عن مشكلات ومصاعب التعليم أكد أيضا أن الكفاءات التربوية موجودة ولها أياد بيضاء في وضع المناهج التربوية على المستوى العربي ككل وأرجع نواقص ما يحدث في التعليم لغياب الإرادة أيضا وليس القدرة.
وبالنسبة لقضية الثقافة ، طرح سؤاله الثالث على الحضور وهو: هل هناك حساسية خاصة من المثقف صاحب الرأي الفاعل الواثق؟
أجاب بنعم، هناك حساسية وهناك خوف منه وهناك إحساس دائم بأننا في مرحلة انتقالية لا تنتهي، وهذه المرحلة تحتم علينا قبول الظروف الخ، وكأننا تعودنا الخروج من مرحلة انتقالية للدخول في أخرى لذلك على المثقف الآن أن يدرك أن دوره الفاعل داخل مجتمعه ليس ترفا، منوها بأننا نعاني اليوم ونحن نحاول إعادة الشعر إلى القراء والقراء إلى الشعر.
مصر القديمة هي المفتاح
وكانت الحضارة المصرية القديمة حاضرة بقوة في مداخلة الكاتب الصحفي نبيل عمر، الذي استهل حديثه بالتأكيد أن فرعون مصر لم يكن مصريا وأن مصر القديمة لم يكن بها أمي واحد لأن التعليم لديهم كان جزءا أساسيا وضرورة للانتقال للحياة الآخرة وأضاف أن المصري القديم كان أكثر الناس عدلا.
وخاطب الحضور بقوله: الثقافة هي القاطرة ولكن السؤال الذي يجب طرحه أي ثقافة، فالثقافة منتج. وأكد أن مصر القديمة هي المفتاح وأن التعليم ما هو إلا تركيب العقل على هيئة علمية فقيمة المعلومات تستمد عندما تتحول المعلومة إلى معرفة ثم تتحول المعرفة إلى قرار وهذا لن يحدث إلا إذا كان العقل مرتباً بطريقة صحيحة، فالعقل البشري يصبح بمثابة مخزن كراكيب إذا لم تتحول المعرفة إلى قرارات سليمة.
ومع أن الأقوال نسبية لكننا نجد كثيراً من الإعلاميين يطرحون القضايا وكأنهم يقولون لنا أحكاما مطلقة. وتحدث عن العقل “الغوغائي الجمعي” مؤكدا أن أزمة مصر بصفة عامة أننا عادة ما نتحدث عن أعراض الأزمة وليس الأزمة نفسها، ولفت إلى أن الدول يجب أن تدار بالمفاهيم وليس بالتفاصيل، وذكر في حديثه أن المثقف ابن السلطة والسلطة صانعة النخبة في مصر الحديثة، وطالب بنظام تعليم موحد وعادل مؤكدا أن أي حضارة في التاريخ أساسها المعرفة ثم العدل، وقد عرفت الدولة المصرية القديمة الماعت أي العدالة. لذلك فمصر القديمة هي المفتاح.
وجذب الفنان عازف الناي سعيد العسيلى الحضور لأجواء وجدانية بعزفه المنفرد ثم مشاركته الفنان ناصر النوبي في العزف لحظة إلقاء فقرة الشعر الجماعي.
و”الناى”هو آلة موسيقية شرقية تستخدم في التخت الموسيقي الشرقي، وهي آلة هوائية استخدمها المصري القديم وتصدر نغمات التون ونصف التون وثلاثة أرباع التون بدقة عالية وتعد من أقدم الآلات الموسيقية في التاريخ.
وذكر العسيلي أنه وجد ضالته في هذه الغابة التي تصدر هذا الصوت الخاص جداً ، عندما كان ينتظر حبيبته علي شط الترعة في صباه الباكر ، حيث وجد نفسه وقد قطع هذه الغابه وراح ينفخ فيها، إلي أن كبر حبه لها علي مر السنين، والتحق بمعهد الموسيقى ليدرسها ويتخصص فيها.
وعلى أنغام الناي استهلت “فرقة الجميزة ” الفنانة “يم سويلم” والفنان الملحن ناصر النوبي غناءهما في ختام الملتقي، حيث عزف ناصر النوبي على جيتاره بمهارة كما عزفت يم سويلم بحنجرتها الجميلة على نبضات القلوب، وشاركوا شعراء الملتقى الكبار في وصلات غنائية جماعية بأداء راق ومبهر للجميع بمصاحبة عازف الناي سعيد العسيلي ومشاركة الشعراء الكبار وهم ( مسعود شومان، السيد حسن، السيد الخمار) بقيادة ذكية للنوبي مؤسس الجميزة.
ومن بين فعاليات الملتقى التي كانت مقررة إلقاء قصائد للشعراء ميادة الشربيني وشوقي نسيم والشاعر الكبير نادي حافظ الذي خص الملتقي بهذه القصيدة:
علّني أخطو على جسدي
كليني يا أميمة
للذي ناخت له روح البنفسج
للذي أودى بقلبي
في مدقات الصحارى
واقرئي لغتي انفجارا
في سماوات
تذوّق طقسها بمواجعي
هيا كليني
علّني أخطو على جسدي
وأزعق ذي فنوني
علّني أنجو بروحي
من مساءات
تعشش فوق ذاكرتي
وأنجو من غيابي
ربما
مشت الهوينى
في شوارع بهجتي
كيما تضيء
كناية تمضي بنرجستين
هل ذاك الجمال: الحلّ والترحال؟
أم ذاك الخراب: الظل والزيتون؟
لا
بل إنها روحي
ومستها المشاوير البعيدة
إنها لغة
تفيض
على مقاس الشاردين
فيا أميمة
إنني (سمح مخالقتي)
إذا شقت عصاك
صخور أيامي
لتنبجس القصائد حرة
كحمائم
خرجت من الشرك البدائي
فابلعي ريقي لأصمد
ربما
قلبي على وطني انفطر
وقلوب من هجروا حجر
فتكلمي غيما
لتمطر مقلتاي
طيورها الخضر
احلمي نورا
لأبصر واحة في غرب مصر
وهيّئي نيلا خرافيا
يشقّ الكون بين مدينتين:
أنا وأنت
ليستوي من ضلع “مروة”
عرشي الآتي
اسمعيني يا أميمة
حركي هذا الهواء
لعل “أسماء” التي راحت تغني
أستطيع سماعها.
واختتم الملتقي فعالياته بقصيدة بعنوان “في الختام” للشاعر الطحانوبي شوقي نسيم:
كالبخار
ربما يظهر قليلاً
ثم يخبو ويضمحل
كالحياة
كلما طالت
يدانيها الأجل
لابد أن تأتي النهاية
وكل شئ يكتمل
لكننا لسنا هنا كي نفترق
لم يحن بعد الفراق
لم تحن بعد النهاية
مازال في الشمعة
بعضُُ من زيوت الاحتراق
هيا اقسموا الا تفرقنا الحياة
هيا اقسموا الا يكون لقاءنا
ذكرى تداعبها الشفاة
هيا اقسموا بانه
ما دام في الدنيا حياة
ما دام في القلب دماء تندفع
لا بد أن تشرق شمس للقاء ونجتمع