المحرر الثقافي:
“رحلة الروح” أول كتاب يوثق قصائد الحنين إلى مكة والمسجد الحرام لشعراء من عصور مختلفة.
أكثر من ثلاثين شاعرا، بينهم غير مسلمين، يبرزون الدلالات الحضارية والثقافية والدينية لعشق الكعبة المشرفة والأماكن المقدسة.
رحلة طويلة تهيم خلالها الروح شوقا وحنينا إلى مكة المكرمة والكعبة الشريفة من خلال قصائد هؤلاء الشعراء الذين تطلعت قلوبهم إلى بيت الله الحرام والديار المقدسة، فأفاضوا بمشاعر الحب والإجلال والوقار على مرّ العصور، ومن مختلف أنحاء الدنيا.
يعدّ الكتاب فريدا في بابه، ونتج عن فكرة إذاعية قدمها صاحبه عبر إذاعة مكة المكرمة، كما أشار إلى ذلك في مقدمة كتابه الذي صدرَ حديثا بالقاهرة، ويقعُ في 352 صفحة من القطع المتوسط.
المؤلف الدكتور الدكتور عثمان أبو زيد الكاتب الصحفي والإذاعي بمكة المكرمة يجزم بأن تاريخ الإنسانية لم يعرف مكانًا مثل مكة المكرمة والمسجد الحرام عبّر زواره عن شوقهم إليه بشتى أنواع البيان، وصنوف التعبير.
يقول: مايزالُ الذاهبونَ إلى مكة المكرمةِ والمغادرونَ يُعبّرون عن إحساسِهم بالمكان أو شوقِهم إليهِ بأعظم ما عرفَ الإنسانُ من معاني الحبّ والعاطفةِ والشوقِ والحنين والإجلال.
يحللُ المؤلفُ الكثيرَ من النصوص الشعرية بين دفتي كتابه من الناحية الأدبية متوخيًا الدلالات التاريخية التي تفصح عنها.
ويصفُها بأنّها: “تَمَثّلٌ جَميلٌ للثقافةِ والحضارة الإسلامية في امتدادها عبرَ الزمان والمكان، إذ تتجلّى فيها حياةُ الناس وأحوالهم عبر العصور، ويتجسدُ فيها عالمٌ متنوعٌ متعددٌ من الأندلس إلى الصين عبر مصر والعراق وبلاد ما وراء النهر”.
ويجزمُ بأنّ شعيرة الحج أمدت الشعراء بفيوضات ثقافية وروحية وعلمية، وبعضُ الشعراء استطاعَ أن ينتج معطى فنيًا فاعلا يوظفُ الصورَ الشعرية في إبرازِ حقول دلالية حضارية ودينية وتاريخية.
ويقول: لا عجبَ أن يحتفي الشعرُ بالأرض المقدسة، وأن يسجلَ الشعراءُ أجودَ ما قيل شوقًا إلى مكة والحرم؛ فمكة مهوى الأفئدة منذ دعا سيدنُا إبراهيم الخليل عليه السلام: “ربَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ”.. (سورة إبراهيم: 37).
ويوضح أنّ عددًا كبيرًا من العلماءِ والفقهاء والأدباء كتبوا عن مكة في رحلاتٍ وذكرياتٍ ووصفٍ جغرافي، بعضُها سردٌ تعليمي، وبعضُها الآخر قصصٌ وأخبار، ولكنّ الشعراءَ حين أقبلوا بقلوبهم إلى ظلّ الحرم، وخلعوا حجب المشاعل، أنتجوا هذه الآثار الجميلة التي تعيدنا إلى الجذور الروحية والهوية الأصيلة، وهذه وظيفة الشعر تهذيبًا للنفوس وإنعاشا للقلوب وحفزا لها على جلائل الأعمال.
ويسجلُ المؤلف، في مستهل النصوص الشعرية التي يتناولها، بيتين من الشعر ينسبان إلى الصحابي الجليل بلال بن رباح كان يتغنى بهما عند هجرته إلى المدينة المنورة حنينا إلى مكة:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هلْ أبِيتَنَّ لَيْلَةً
بمكة عندي إذْخِرٌ وجَلِيلُ
وَهلْ أرِدَن يَوْمًا مِيَاهَ مجَنَّةٍ
وهلْ يَبْدُوَنْ لي شَامَةٌ وطَفِيلُ
فقد أحب الصحابي الجليل بلال بن رباح مكة، وتمنَّى أنْ يَبيتَ ليلةً واحدةً في ضواحيها، ويُطفِئَ أشواقَه الحارَّةَ مِن مياهِ مِجَنَّةَ، وأن يُمتِّعَ ناظرَيْهِ بمشاهدةِ إِذْخِرٍ وجليلٍ، وغيرِها مِن النَّباتاتِ الخلويَّةِ الَّتي حولها، وأن يُشاهدَ شامةَ وطَفِيلًا، وغيرَهما مِن جبالِ مكَّةَ الشَّامخةِ.
إلى عرفات الله
واحتفى الكتاب بقصائد أمير الشعراء أحمد شوقي وخصص لها مساحة مهمة في صدر صفحاته، ووصفه بأنه عميق في ثقافته وتجربته الشعرية؛ فقد نهل من الأدب الفرنسي، وقرأ لكبار الشعراء، وكان لعيشه في بلاط الخديوية أثره القوي في توجيه أساليبه، وانضافت إلى ذلك تجربة الإبعاد القسري عن الوطن، عندما نفاه الإنجليز إلى إسبانيا عام 1333 هـ/ 1915م.
ففي هذه الفترة اطلع أحمد شوقي على الأدب الأندلسي والحضارة الأندلسية، وساعده إلمامه بالفرنسية في الاطلاع على الآداب الأوروبية.
ويتوقف المؤلف بالشرح والتحليل أمام قصيدة شوقي “إلى عرفات الله” التي مدح بها الخديوي عباس، وهو في طريقه لأداء “فريضة الحج” وذكر فيها مكة المكرمة والكعبة المشرفة والمشاعر.
لَكَ الدينُ يا رَبَّ الحَجيجِ جَمَعتَهُمْ
لِبَيتٍ طَهورِ الساحِ وَالعَرَصاتِ
أَرى الناسَ أَصنافًا وَمِن كُلِّ بُقعَةٍ
إِلَيكَ انتَهَوا مِن غُربَةٍ وَشَتاتِ
تَساوَوا فَلا الأَنسابُ فيها تَفاوُتٌ
لَدَيكَ وَلا الأَقدارُ مُختَلِفاتِ
ويؤكد المؤلف أن المنجز الإبداعي يحيل الزمن التاريخي إلى مشاهد حية تمشي على رجلين، فيمكن التحديق عبره في آفاق من امتدادات الزمان والمكان، كما في قصيدة “نهج البردة”:
هناك أذّن للرحمن فامتلأت
أسماع مكّة من قدسيّة النغم
فلا تسل عن قريش كيف حيرتها؟
وكيف نفرتها في السهل والعلم؟
تساءلواعن عظيم قد ألمّ بهم
رمى المشايخ والولدان باللمم
جو روحي فريد
وننتقل مع المؤلف إلى واحة شعرية أخرى، حيث يصف “ابن معصوم” – المولود بالحجاز – بأدق الكلمات وأحسنها الرحلة إلى مكة المكرمة ومناسك الحج:
يا حاديَ الظعنِ إِن جُزتَ المواقيتا
فحيّ مَن بِمنىً والخَيفِ حُيِّيتا
وَسَل بجمعٍ أَجمعُ الشَملِ مؤتَلِفٌ
أَم غالَه الدَهرُ تفريقاً وتَشتيتا
واِلثِم ثَرى ذَلِكَ الوادي وَحُطَّ بِهِ
عَن الرِحال تَنل يا سَعدُ ما شيتا
الشاعر يخاطب حادي الظعن (سائق الإبل) أن تكون تحية من بمنى والخيف أول ما يفعل حين يتجاوز مواقيت الإحرام، وأن يسأل في المزدلفة إن كان الجمع مازال مؤتلفا ومجتمعا أم أن يد الدهر قد فرقت بينهم.
ويطلب الشاعر من هذا الحادي أن يقبل ثرى ذلك الوادي، وبذلك ينال ما يشاء من مطلوب.
ونمضي في “رحلة الروح” حتى نصل إلى واحة شعرية مميزة، صاحبها هو الشاعر المسيحي االلبناني سعيد عقل حيث يقول:
غنَيت مكة أهلها الصيدا
والعيد يملأ أضلعي عيدا
فرحوا فلألأ تحت كل سمًا
بيت على بيت الهدى شيدا
وعلا اسم رب العالمين
على بنيانه كالشهب ممدودا
يا قارئ القرآن صل لهم
أهلي هناك وطيّب البيدا
أنا أينما صلى الأنام رأت
عيني السماء تفتحت جودا
ضج الحجيج هناك فاشتبكي
بفمي هنا يا ورق تغريدا
يؤكد المؤلف أن سمات مكة وقسماتها مثل مرأى الحجيج في المشاعر المقدسة هي التي أوحت بأبياتها إلى الشاعر سعيد عقل، كما أن ذلك الجو الروحي الفريد هو الذي غمر خياله، فكانت أريحية هذا الشاعر الذي يرى في صلاة الأنام أينما كانوا عملا يعم الخير به على البشر جميعا.
ويخاطب سعيد عقل قارئ القرآن في مكة طالبا منه أن يدعو لأهله هناك، وتعبر مفردة “أهلي” عن قيمة معنوية عالية؛ ووشيجة إنسانية راقية.
بلاد الأشواق
ونمضي بصحبة المؤلف لنقف أمام قصيدة بعنوان “الرحلة إلى بلاد الأشواق” لابن قيم الجوزية المولود بدمشق سنة 691هـ، والمتوفى سنة 751هـ
حج ابن قيم الجوزية إلى بيت الله الحرام مرات، وكتب كتبه “مفتاح دار السعادة” بمكة المكرمة في أثناء جواره البيت الحرام. كما كتب في مكة أيضا كتابه “تهذيب السنن”.
يقول ابن قيم الجوزية في قصيدته:
فلِلَّهِ كمْ مِن عَبْرةٍ مُهْرَاقةٍ
وأخرى على آثارِها لا تَقَدَّمُ
وَقدْ شَرِقتْ عينُ المُحِبِّ بدَمْعِها
فينظرُ مِن بينِ الدُّموعِ ويُسْجِمُ
إذا عَايَنَتْهُ العَيْنُ زالَ ظلامُها
وزالَ عن القلبِ الكئيبِ التألُّمُ
ولا يَعْرِفُ الطرْفُ المُعايِنُ حسْنَهُ
إلى أن يعودَ الطرْفُ والشوقُ أعْظمُ
ولا عجبٌ مِن ذا فحِينَ أضافهُ
إلى نفسِهِ الرحمنُ ؛ فهو المعظَّمُ
كسَاهُ منَ الإجْلالِ أعظمَ حُلةٍ
عليها طِرازٌ بالمَلاحَةِ مُعْلَمُ
فمِنْ أجلِ ذا كلُّ القلوبِ تُحِبُّهُ
وتَخْضَعُ إجْلالا لهُ وتُعَظِّمُ
ويعلق المؤلف على هذه الأبيات قائلا: هذا كلام نفيس في تعظيم البلد الحرام. لا يشبع المعاين للبيت الحرام؛ فهو يعاود نظره مرة بعد مرة، ولا يشبع منه لأن الشوق أعظم. فلا عجب، فبيت الله يأخذ عظمته من عظمة الله، فقد أضافه الرحمن إلى نفسه فصار معظما.
ويشير الكتاب إلى أن هناك سببا آخر يظهر من فهم أبيات القصيدة هو أن البيت الحرام جمع بين الجلال والجمال.
ونمضي مع “رحلة الروح” حتى نصل إلى بستان الشاعر الكبير محمد إقبال، وخاصة قصيدته “شكوى” التي كشف فيها عن شوقه إلى بيت الله الحرام، وإلى مكة المكرمة:
أشـواقـنـا نـحــو الـحـجـاز تـطـلـعـت
كحـنـيـن مـغـتـربٍ إلـــى الأوطــــانِ
إن الـطـيـور وإن قـصـصـت جنـاحـهـا
تـسـمـو بفطـرتـهـا إلـــى الـطـيـران
قـيـثـارتــي مـكـتـوبــةٌ ونـشـيـدهــا قـد
مـلَّ مــن صـمـتٍ ومــن كتـمـان
واللـحـن فــي الأوتــار يـرجـو عـازفـاً
لـيـبــوح مــــن أســـــراره بـمــعــان
والـطـور يـرتـقـب التـجـلِّـي صـارخــاً
بـهـوى المـشـوق ولهـفـة الحـيـران
يعلق المؤلف على هذه الأبيات قائلا: يتطلع الشاعر محمد إقبال بأشواقه إلى الديار المقدسة التي حالت الظروف دون الوصول إليها.
ويصف الكاتب الشاعر الكبير محمد إقبال بأنه رجل محبة بحق، مؤكدا أن هذا الحب تجلى وعيا ناضجا في شعره، ومن ذلك قوله:
أنا أعجمي الحـب إلا أنـنـي
أطلقت في الحرم الشريف لساني
داري وقبلتي وفخاري
ويفرد الكتاب مساحات مهمة للشعراء المكيين الذي أفاضوا في بيان الإشراقات الروحية الجمالية في حب مكة والبيت الحرام.
فهذا الشاعر المكي عبد العزيز خوجة برّح الشوق إلى مكة بقلبه، وحن إلى مرابعها وهو بعيد عنها، وتشوف إليها لأنها داره وقبلته وفخاره، حيث يقول في قصيدته “غربة”:
أين أين المصير والعمر يذوي
وحنيني الوحيد نحو دياري
إيه يا مكة الهُدى للبرايا
وجذوري في روضك المعطار
كلّما زارني خيال حبيبٌ
من مداك الرحيب أوقد ناري
كلّما نادى في المنارات حقّ
ضجّ وجدي احتلني استعباري
واستطابت اطياف مكة فكري
فهي داري وقبلتي وفخاري
وهذا شاعر مكي آخر، هو طاهر زمخشري، يفيض إشراقات روحية جمالية يشعها البناء الفني لقصيدته “إلى المروتين”:
أهيمُ وفي خاطري التائهِ
رؤى بلدٍ مُشرق الجانبين
يطوفُ خيالي بأنحائهِ
لأقطع فيه ولو خطوتين
أُمرّغُ خدي ببطحائه
وألمس منه الثرى باليدين
وأُلقي الرحال بأفيائه
وأطبع في أرضه قبلتين
تحمل هذه الأبيات تخيل الشاعر، وهو في مغتربه البعيد، أنه يمرغ خديه ببطحاء مكة، ويلمس ثراها بيديه، ويطبع في أرضها قبلتين.
وللشاعر المكي المعروف محمد حسن فقي، المولود بجوار الصفا بمكة، قصائد عديدة في حب مكة والبيت الحرام، يقول في إحداها:
شَجانا مِنْكِ يا مَكَّةُ ما يُشْجى المُحِبِّينا
فقد كُنْتِ لنا الدُّنيا كما كنْتِ لنا الدِّينا
وكنْتِ المَرْبَعَ الشَّامخَ يُرْشِدُنَا ويَهْدِينا
وكنْتِ الدَّارةَ الشَّمَّاءَ تُكْرِمُنا وتُؤْوِينا
وكنْتِ الرَّوضَةَ الغَنَّاء تُلْهِمُنا وتُعْلِينَا
تلفتنا الأبيات إلى العلاقة الخاصة التي تربط الشاعر بالبلد الأمين؛ فمكة مربعه وداره وروضته، وهي مصدر إرشاده وهدايته.
ولا تزال مشاعر الشعراء تتدفق حبا وحنينا وشوقا وتوقيرا وإجلالا لبيت الله الحرام ومكة المكرمة والمدينة المنورة في تفرد وخصوصية غير مسبوقتين على مر التاريخ.