أكتوبر الذى يسكنني
بقلم الشاعر/ السيد حسن
كنت على وشك أن أتم السنة التاسعة من عمرى حين انطلقت حرب أكتوبر المجيدة، وكانت سنوات عمرى القليلة تلك تتيح لى أن أدرك أن زلزالاً مجيداً يجتاح العالم كله،لا المنطقة فحسب، كما كانت هذه السنوات القليلة ذاتها تجعل من اليسير على أن أجرى مع الفتيان لكى أشاهد تلك القطعة التى استطاع شاب من مدينتنا الصغيرة “ميت أبو غالب” -التى كانت قرية كبيرة آنئذ- أن يحصل عليها من حطام واحدة من الطائرات الإسرائيلية التى أسقطها الأبطال المصريون، دون أن أدرك وقتها أنها سقطت فى أطول معركة جوية فى التاريخ، معركة المنصورة الجوية، التى ضربت أرقاماً قياسية مذهلة، ليس أقلها أنها استمرت ثلاثاً وخمسين دقيقة بينما المعتاد فى معارك الطائرات أن تستمر لدقائق تعد على أصابع اليد الواحدة، ثم كان علىَّ أن أنتظر شهوراً لكى أستمع إلى مدرس اللغة العربية المبدع الذى لا ينسى “الأستاذ فخرى على الدين” وهو يصف لنا بروحه المصرية المدهشة وذوقه التربوى العميق، قصة أسر العقيد الإسرائيلى “عساف ياجورى”، وقصة الاعترافات التى أدلى بها على شاشات التليفزيون، كما كان علىَّ أن أنتظر لفترة أطول حتى يشرح لى أحدهم الفارق بين الساتر الترابى وخط بارليف، وقصة الضابط المهندس المصرى الذى ابتكر فكرة مضخات المياه لكى يتم اختراق الساتر الترابى الذى أكد الخبراء الروس أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك سوى قنبلة ذرية محدودة القوة، وحين سمع هذا الضابط أحد قادته يؤكد أن «القضاء على الساتر الترابى باستخدام المتفجرات، سيستغرق حوالى خمس عشرة ساعة، وأن الخسائر البشرية ستصل إلى عشرين بالمائة”، انزعج من حجم الخسائر فرفع يده طالباً الكلمة: “الحل فى خرطوم المياه، وسنحتاج إلى طلمبات مياه ماصة كابسة صغيرة تحملها الزوارق الخفيفة، وتمتص الماء من القنال وتكبسها وتصوب مدافع مياه بعزم كبير على الساتر الترابى فتتحرك الرمال، وميل الساتر الترابى سيسمح بانهيار الرمال فى قاع القناة، ومع استمرار تدفق المياه سنفتح ثغرات فى الساتر بالعمق وبالعرض المطلوب، وعن طريق هذه الثغرات يتم عبور المركبات والمدرعات إلى عمق سيناء”.
تذكرت هذا كله وأنا أجد نفسى فى ستوديو الإذاعة وجها لوجه مع اللواء طيار أحمد المنصورى صاحب لقب “الطيار المجنون” الذى أطلقه عليه الإسرائيليون لشجاعته المفرطة التى تتجاوز كل حدود العقل، والعميد يسرى عمارة آسر عساف ياجورى، وتمنيت ساعتها لو اكتمل اللقاء بحضور باقى رموز اكتوبر الذين صاروا أيقونات البطولة فى وعينا، اللواء باقى زكى، البطل محمد العباسي، الأسطورة عبد العاطي، ثم ذهب خيالى إلى هناك، وتمنيت لو أتيح لى ان أرى أمير الشهداء، إبراهيم الرفاعى، الذى ظل في وعي الجيل كله نموذجا وضاء لطلب الشهادة ونيلها، بعد أن أوجع العدو بضربات الشبح ورجاله النبلاء.
ساعتها قررت أن أرسم لى حضورا خاصا وسط هؤلاء الرجال الاستثنائيين، الذين صاروا تجسيدا حيا لآلاف المصريين، بل وملايينهم، على طريقتى الخاصة، فكتبت الصورة الغنائية يوم الكرامة التى لحنها المبدع أحمد الدمنهوري وأخرجتها المتميزة أميرة الدسوقي وجسدها نجوم مصر وغنتها ريم كمال وياسر سليمان، وأعادت للإذاعة عصر الصور الغنائية المدهش.
لم يكن أولئك الرجال استثنائيين بمعنى أنهم لا يتكررون فى الشعب المصرى النبيل، بل كانت استثنائيتهم نابعة من تجسيدهم الحى لبطولات هذا الشعب ومعدنه الفريد.