لا أعرف إن كانت الأجيال العربية الشابة في مصر والوطن العربي تعرف قيمة حرب أكتوبر 73 وما يمثله الانتصار العربي فيها من معنى في تاريخنا العربي أم لا.
جيلي يعرف جيدا قيمة هذا النصر العظيم.. مثلي مثل كل أبناء جيلي، جيلي عشنا صغارا مرارة الهزيمة في 67 وقسوة تحطم الأحلام والآمال، وآلام ضياع الأرض.. مثلي مثل كل أبناء جيلي، عشنا في سنوات ما بعد الهزيمة يوما بيوم محنة الوطن والشعب،
حين كان طيران العدو الإسرائيلي يجتاح كل الأجواء المصرية ونشعر برعب وخوف مع صافرات الإنذار التي كانت تنطلق والتعليمات بطلاء النوافذ باللون الأزرق والاختباء.. جيلي عاش مع أهلنا في سيناء قسوة ووحشية الخضوع للاحتلال، ومع أهلنا في مدن القناة مأساة التهجير القاسية المؤلمة والمعاناة الرهيبة لهم ولنا.. وغير هذا كثير.
لهذا، بالنسبة لي وكل أبناء جيلي كانت لحظة العبور في السادس من أكتوبر من أسعد لحظات حياتنا على الإطلاق، ومهما قلت لا أستطيع أن أصف شعوري شخصيا في ذلك اليوم المجيد.
آلاف من الكتب والدراسات المتخصصة وغير المتخصصة نشرت عن حرب أكتوبر والانتصار العربي فيها، وعشرات الشهادات عن الحرب قدمها كثيرون من قادتها وشهودها.. ودروس الحرب تدرسها الأكاديميات العسكرية في العالم كله.
ومع هذا، فكلما قرأنا عن الحرب وتأملنا ما جرى فيها نكتشف جوانب جديدة تستحق أن نتوقف عندها ونذكر الأجيال الجديدة بها.
كيف تحقق هذا النصر العظيم؟
الدراسات السياسية عادة ما تركز هنا على عبقرية القيادة السياسية في ذلك الوقت بقيادة الرئيس السادات في إعدادها للحرب، وهو الإعداد الذي بدأ وقطع مراحل متقدمة في عهد الزعيم عبدالناصر، وعلى خطط الخداع الاستراتيجي وهكذا.
والدراسات العسكرية تركز عادة على تحليل الخطط العسكرية الناجحة، وعلى البطولات العسكرية التي سجلها القادة والجنود.
لكن لا تقل أهمية عن هذا كله في تحقيق النصر بطولات سجلها مدنيون ومواطنون عاديون والشعب المصري كله بكل قواه .
الذي حدث أنه في سنوات الإعداد للحرب وانتظارها كان كل مواطن مصري يعتبر نفسه حاميا للوطن ومسؤولا عن استرداد أرضه وكرامته، حتى الذين كانوا يعارضون السادات مثلما كنا نفعل نحن في الجامعة وكنا ننتقده باستمرار بسبب تأجيل قرار الحرب، كنا نفعل هذا من هذا المنطلق بالذات.
الذي حدث أنه طوال سنوات الإعداد للحرب وأثنائها بالطبع، تجسدت الوحدة الوطنية بين أبناء مصر مسلمين ومسيحيين في أروع صورها.
هذه الروح الوطنية العارمة الجامعة فجرت بطولات سجلها مواطنون مصريون عاديون، بعضها وصل إلى حد الإعجاز، كان لها فضل كبير جدا في تحقيق النصر، ولولاها ما تحقق نصر.
بعض هذه البطولات أصبحت معروفة، وكثير منها لم يعرف بعد.
منها مثلا هذه الفكرة العبقرية التي أتى بها اللواء مهندس باقي زكي يوسف بتحطيم خط بارليف بخراطيم المياه، وهو الخط الذي كانت إسرائيل تتفاخر بأنه لا يمكن تحطيمه إلا بقنبلة ذرية.
ومنها مثلا تلك الفكرة العبقرية التي تفتق عنها ذهن المواطن المصري أحمد إدريس، فكرة «الشيفرة النوبية» التي تم استخدامها للتواصل بين وحدات الجيش وقياداته أثناء الحرب.
ومنها ما فعله هذا المواطن المصري واسمه الدكتور محمود يوسف سعادة من المركز القومي للبحوث حين قام بحل معضلة كبرى واجهها الجيش قبل الحرب. والذي حدث أنه حين طرد السادات الخبراء السوفييت
قام الاتحاد السوفيتي بمنع تصدير قطع الغيار الى الجيش، ومن بين ما تم منعه وقود الصواريخ.
قيادة الجيش لجأت إلى هذا المواطن الذي استطاع هو وفريق باحثيه في خلال شهر واحد استخلاص 240 لتر وقود جديد صالح من الكمية المنتهية الصلاحية الموجودة بالمخازن.
ما فعله أنه قام بفك شيفرة مكونات الوقود إلى عوامله الأساسية والنسب لكل عامل من هذه المكونات، وتم إجراء تجربة شحن صاروخ بهذا الوقود وإطلاقه ونجحت التجربة تماما، ونجح الخبراء المدنيون والعسكريون تحت إشرافه في إنتاج 45 طنًا من وقود الصواريخ،
وبهذا أصبح الدفاع الجوي المصري في كامل الإستعداد لتنفيذ دوره المخطط له في عملية الهجوم.
هذه مجرد نماذج قليلة جدا من أدوار بطولية لعبها المصريون، عسكريون ومدنيون، وقادت إلى النصر.
أما عن الوحدة الوطنية وتلاحم كل أبناء الشعب ودوره الحاسم في النصر، فإن القصص والحكايات هنا لا يمكن إحصاؤها.
لكن لا تغيب عن ذاكرتي أبدا حكاية قرأتها منذ سنين طويلة رواها قائد إحدى الوحدات العسكرية أثناء الحرب.
قال إنه في يوم السادس من أكتوبر حين وصلت إليهم أوامر بشن الحرب في نفس اليوم، دخل الجنود المسلمون في الوحدة إلى المسجد كي يصلوا وكي يدعوا الله بأن ينصرهم.
يقول القائد إن الجنود المسيحيين في الوحدة تجمعوا خارج المسجد وكانوا يرددون الدعاء خلف الجنود في الداخل. كان الجنود المسلمون يرددون الله أكبر، ويردد خلفهم إخوانهم المسيحيون الله أكبر. كان المسلمون يرددون اللهم انصرنا، ويردد أشقاؤهم المسيحيون خلفهم اللهم انصرنا.. وهكذا.
المرء حين يتأمل كل هذا لا بد أن يفكر اليوم: ما الذي فجر كل هذه العبقرية وكل هذه البطولات؟
الجواب يتلخص في كلمتين : الروح والإرادة.. الروح الوطنية العارمة.. روح الدفاع عن الوطن وحمايته.. روح الإيمان بقوة الشعب.. وإرادة الثأر وتحرير الأرض واسترداد الكرامة.
هذه الروح وهذه الإرادة هي التي تفجر العبقرية الوطنية وهي التي تقف وراء كل بطولة.
هذه الروح وهذه الإرادة هي التي تجعل الشعب كله يفكر ويتصرف ككتلة واحدة وكيان واحد لا فرق بين مسلم ومسيحي ولا بين يميني أو يساري ولا بين موافق أو معارض.. فقط ولاء مطلق للوطن وحب مطلق للوطن واستعداد للتضحية من أجله.
هذه الروح وهذه الإرادة هي التي تجعل كل فرد يشعر ويتصرف على اعتبار أنه هو بالذات الحامي الأول للوطن والذي عليه أن يفتديه بكل ما يملك.
لهذا، وقد كتبت هذا من قبل، كل بيت في مصر بلا أي استثناء لديه مع حرب أكتوبر المجيدة قصة بطولة يسجلها أو يحكيها ويفاخر بها..
كل بيت في مصر إما قدم شهيدا أو جريحا أو مقاتلا شارك في حروب الدفاع عن الوطن، أو لديه سجل من أعمال وطنية كبيرة أو صغيرة قام بها أبناؤه من أجل الوطن.
مثل هذه المعاني والدروس التي ارتبطت بحرب أكتوبر ليست تاريخا انقضى يلفه النسيان.
يجب ألا تغيب أبدا عن الذاكرة الوطنية المصرية والعربية وأن تعي بها الأجيال جيلا بعد جيل.