د. عبد الحليم منتصر
عالم النبات ومؤرخ العلم والمجمعي المُحقق
أ. د. محمد فتحي فرج
حينما ساقتنى الظروف ، لمناقشة أحد أعضاء هيئة التدريس ، المتقدمين للترقية إلى درجة علمية أعلى (أستاذ مساعد فى تخصص علم الحيوان) ، ورأيت مستوى هذا المتقدم من خلال بحوثه ، وطريقة عرضه ولغته ، سواء العربية أو الأجنبية ، حينما وقفت على كل ذلك ترحّمت على جيل الأساتذة الرواد ، ذلك الجيل الذى ينتمى إليه أستاذنا الدكتور عبد الحليم منتصر ـ رحمه الله ، وهو يضم نخبة ممن أخلصوا للعلم وأعطوا له من ذواتهم الكثير والكثير ، فكان جزاؤههم أنهم يحيون الآن فى عالم الخلود ، ومن هذا الجيل الذى لا يعوض: الدكتور على مصطفى مشرفة ، الدكتور على إبراهيم ، الدكتور محمد كامل حسين ، الدكتور أحمد زكى ، الدكتور زكى نجيب محمود ، الدكتور حسين فوزى ، الدكتور حامد عبد الفتاح جوهر ، الدكتور عبد الحليم كامل ، الدكتور كامل منصور ، الدكتور محمد جمال الدين الفندى ، وغيرهم كثيرون.
ومع ذلك فما رأيت أكثر غبنا ، وأكثر تعرّضا للتجاهل والتعتيم من هؤلاء الرواد ، فقد ظلموا أحياء وأمواتا! كان كل واحد من هؤلاء الرواد عَلَماََ بارزا فى ما كرّس له حياته من علم ، ثم إنه لم يتقوقع أو يدفن نفسه فى تخصصه ، وإنما انفتح على الثقافة العامة ، فى مجالاتها المتعددة ، فضلا عن تحصُّنِه بلغته العربية أولا ، ثم إتقانه لواحدة على الأقل من اللغات الأجنبية الحية ، جعل منها نافذته التى أطلَّ منها ، بشكل دائم ومنتظم ، على كل جديد فى مجال تخصصه ، وربما نقل لنا منه زادا معرفيا فى هذا المجال ، أو حتى من المحيط الثقافى الواسع الذى لا ساحل له ، وعلى سبيل المثال نجد د. أحمد زكى ينقل لنا عن الإنجليزية “جان دارك” لبرنارد شو ، ونرى د. محمد عوض محمد ينقل لنا عن الألمانية ” فاوست” لجيته ، ونرى د. محمد كامل حسين ينقل لنا بردية إدوين سميث ، حول طب الفراعنة. أما الدكتور منتصر فقد ترجم وألف فى علم النبات وفى تاريخ العلم ، وفى غيرهما من مجالات العلم والمعرفة ، كما كان له إسهام كبير فى وضع المصطلحات العلمية وتبسيط العلوم ، فهو من الرعيل الأول فى مجمع اللغة العربية. وهكذا ، فقد جمع كل واحد من هؤلاء العمالقة بين الثقافتين: الثقافة العلمية المهنية بحكم تخصصه ، ثم أضاف إليها الثقافة بمفهومها العام ، أو قلْ: الثقافة الإنسانية الشاملة ، التى تتيح للإنسان أن ينفتح على كل شئون العالم ، باعتباره إنسانا ، يشارك الناس عملهم واهتماماتهم ، بل وحياتهم.
شروط المثقف فى رأيه:
والجدير بالذكر أن هؤلاء الرواد قد نظروا إلى الثقافة باعتبارها ليست ترفا أو زينة للتحلى والتسلى ، وإنما اعتبروها ضرورة ولازمة من لوازم الإنسان المتحضر ، وعنصرا هاما فى تكوينه ، ولعلنا نلمح ذلك جيدا من الحديث، الذى بيّن فيه الدكتور منتصر ـ وهو العالم المتخصص فى علم النبات ـ شروط المثقف ، وكان ذلك فى الكويت ، وفى حضرة الدكتور أحمد زكى رئيس تحرير مجلة “العربى” آنذاك ، حيث أكد على عشرة شروط ، وهى أن يكون : مجيدا للغته ، قراءة وكتابة واطلاعا على أدبها وشعرها ، فهو لا يتصور مثقفا لا يجيد لغته ، مجيدا لواحدة من اللغات الأجنبية ، على الأقل ، حتى يستطيع أن يطلع على علم أو أدب بها ، وأن يكون على معرفة جيدة بدينه والأديان الأخرى ، ملما بتاريخ وطنه ، وأشهر أحداثه وحكامه ؛ لأن الثقافة تتصل بالأوطان والقوميات ، وأن يكون متخصصا يُسعى إليه في تخصصه ، أيّا كان ، حتى ولو كان نجارا أو طبيبا أو مهندسا ، على معرفة عامة بالعلم ، فعصر العلم الذى نعيشه يستوجب منا إطلالة عامة على منجزاته ، وأن يكون على معرفة عامة بالفنون التشكيلية ، والموسيقية ، والمسرحية ، والسينمائية ، وغيرها، وعلى معرفة عامة بالمذاهب الفكرية ، والسياسية ، والاقتصادية ، والفلسفية ، وما إليها ، ملمّا بالحضارات ، التى سادت العالم ، وأسهمت بها الشعوب والأمم المختلفة من فرعونية ، وإغريقية ، وصينية ، ورومانية ، وإسلامية ، وأوربية ، إلى غير ذلك من حضارات ، عارفا بالأحداث الكبرى فى التاريخ ، وأسبابها ، ونتائجها ، كالحروب الكبرى ، والاتفاقات والمعاهدات ، والمنظمات الدولية ، إلى غير ذلك من أمور عامة ، تهم العالم كله.
يقول الدكتور منتصر: حينما سمع الدكتور أحمد زكى ، ونحن فى الكويت ، هذا الحديث منى ، قال: إنك ترسم نفسك!
قلت: لست منهم.
قال: إذن هو أمَلُك!
قلت: نعم ، ثم أردفتُ: وكذلك ينبغى على المثقف أن يعرف مشاهير العلماء ، والأدباء والفنانين والكتاب ، والفلاسفة ، والشعراء ، والمؤرخين ، فى كل العصور ومن كل الأجناس(1).
العَلَم المجهول:
فى كتابه ” ذكريات عطرة” يعبر الدكتور منتصر بشئ من الأسى والأسف عن التجاهل الذى يتعرض له المثقفون فى وطننا العربى ولا سيما العلماء منهم على وجه التحديد ، فيقول : كنت فى لندن أزور المتحف البريطانى ، وأردت الدخول إلى المكتبة الشرقية ، الغنية بالمخطوطات العربية ، وسألنى الأمين عن اسمى ، فقلت منتصر . قال: منتصر عبد الحليم . قلت: نعم. فأذن لى بالدخول دون مراجعة أو تدقيق . وتبين لى أنهم يجمعون و” يأرشفون” ما أكتبه عن التراث العلمى العربى ، وترددت على المتحف على مدى عشرين يوما كنت خلالها أقابَل الترحيب والإكرام ، وقد حدث نفس الشئ فى برلين ، حينما ذهبت إلى المكتبة الشرقية بها لمراجعة بعض المخطوطات.
ثم يردف قائلا: وأذكر بهذه المناسبة أنى خرجت يوما من محاضرة فى معهد الدراسات الإسلامية ، وإذا بشخص يسأل عنى ، واتضح أنه يوغوسلافى ، وأنه انتهز فرصة وجوده فى مصر ليلقانى ، ويقدم لى بضعة أعداد من صحيفة يوغسلافية ، ترجم فيها فصلا كنت قدمته إلى اليونسكو عن: “العلوم عند العرب” ، فنقله إلى اليوغسلافية فى بضعة أعداد متتابعة من الجريدة ، وصمم على أن يلقانى ؛ ليقدمها إلىّ ، فشكرت له صنيعه ، وقلت فى نفسى: كم فى بلدنا مصر ممّن يعرفون العبد الفقير؟!
من هو عبد الحليم منتصر؟
ولد الراحل الكريم المرحوم عبد الحليم منتصر فى قرية “الغوابين” بمركز فارسكور، التابع لمديرية الدقهلية حينذاك(التابع لمحافظة دمياط حاليا) بجمهورية مصر العربية ، فى الثانى من سبتمبر من عام 1908،حيث تلقى تعليمه الأولىّ فى هذه القرية ، قبل أن يلتحق بالمدرسة الإبتدائية بمدينة فارسكور وبعد تخرجه فيها التحق بالمدرسة الثانوية بمدينة المنصورة ، فحصل على شهادة الكفاءة ، التى أهلته للالتحاق بالقسم العملى ، ليحصل على شهادة البكالوريا من مدرسة الجيزة الثانوية ، ثم التحق بالجامعة المصرية (جامعة القاهرة الآن) حيث تخرج فى كلية العلوم عام 1931؛ ليعمل معيدا بقسم النبات ، ثم تتلمذ على العلم الشهير “أوليفر” ليحصل على الماجستير فى النبات عام 1934، عن رسالة موضوعها : ” النتح والثغور فى النباتات الصحراوية” . وقد أوفد فى بعثة إلى انجلترا وسويسرا ، وواصل دراساته حيث تتلمذ على أستاذيْه “سالسبرى” و” شودات” ، ليحصل على درجة الدكتوراه فى النبات عن رسالة موضوعها: ” التربة المصرية ونباتاتها ، وبيئة بحيرة المنزلة” عام 1938. وقد رقى بالكلية مدرسا لعلم النبات فى العام نفسه ، فأستاذا مساعدا عام 1945، ثم رقى إلى درجة أستاذ لينتقل أستاذا ورئيسا لقسم النبات فى كلية العلوم جامعة عين شمس عام 1950. وقد شغل المرحوم كرسى العمادة بهذه الكلية لدورتين متتاليتين من عام 1954 إلى عام 1960، ثم انتدب سيادته عام 1962 ليعمل مديرا لجامعة الكويت أول إنشائها ، ثم أستاذا متفرغا منذ عام 1968(2) إلى أن اختاره الله إلى جواره عام 1992.
من إسهاماته فى العمل العام:
لم يكتف الرجل بانغماسه فى حياته العملية والعلمية المتخصصة ، بل تميز منذ بداية هذه المرحلة باضطلاعه بالعمل العام ، متحملا مسؤولياته ، ناهضا بأعبائه ، على خير وجه. ففى عام 1932، وعقب تخرجه بعام واحد كوّن مع نفر من زملائه من خريجى الدفعات الأولى لكلية العلوم الوحيدة آنذاك جمعية أسموها “جمعية خريجى كلية العلوم” ، التى تحولت فيما بعد إلى ” جمعية خريجى كليات العلوم” ، التى ظل رئيسا لها حتى عام1975، وفى يناير من عام 1934 أصدر مجلة ” رسالة العلم” ، التى رأس تحريرها على مدى يزيد عن ثنتين وأربعين عاما ، حيث توقفت عن الصدور ، حينما انتقل عام 1975 أستاذا بجامعة الملك فيصل ومستشارا لشؤون الجامعات بالتعليم العالى فى المملكة العربية السعودية ، فلم يتيسر إصدارها بانتظام خلال السنوات العشر الأخيرة.
وقد أسهم الدكتور منتصر فى إنشاء الاتحاد العلمى المصرى ، وظل أمينا عاما له منذ عام 1955 حتى عام 1975. كما أسهم أيضا فى إنشاء الاتحاد العلمى العربى الذى أنشئ عام 1955 وانتخب أمينا له حتى عام 1972. كما انتخب نقيبا لنقابة العلميين بمصر لعدة سنوات ، ووكيلا للجمعية النباتية المصرية ، وأمينا عاما للجمعية المصرية لتاريخ العلوم ، كما انتخب عضوا بمجمع اللغة العربية منذ عام 1958، كما اشترك مع الأستاذ العقاد قبيل وفاة الأخير فى الإشراف على تحرير سلسلة ” تراث الإنسانية” التى كانت تصدرها “الهيئة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر” ، ولا نستطيع أن نسترسل فى هذا الجانب، حيث يطول بنا الحديث صفحات وصفحات!
وقد حصل على جائزة الدولة التقديرية فى العلوم ووسام الاستحقاق عام 1986. وقد منحته الجمعية البيوجرافية الدولية بكمبردج شهادة تقديرية فى العلم ، كما اختارته الجمعية الدولية الأمريكية واحدا من الرواد الممتازين فى العلم. وقد منحته رابطة الأدب الحديث فى مصر شهادة زمالة فخرية تقديرا له فى الأدب(3).
من مآثره وآثاره العلمية:
فضلا عن تربيته لجيل من الأساتذة والعلماء ، فكان لهم المعلم والقدوة الحسنة ، والقيمة العالية ، فقد ترك الدكتور منتصر ثروة علمية لا تقدر بثمن. فقد حدثنى من أثق فى أمانته عن بعض مآثر الرجل وقِيَمِه ، التى تزال تنتقل من جيل إلى جيل ، حيث كان المغفور له الدكتور منتصر جادا فى عمله إلى أقصى حد ، مقدرا لقيمة الوقت بالنسبة له وللآخرين ، فكان الطلاب يضبطون ساعاتهم على مواعيد محاضراته ، وكان يتخيّر المواعيد المبكرة ، التى تبتعد عادة عن مواعيد الاجتماعات واللقاءات ، حتى لا تضيع على الطلاب محاضرة من محاضراته ، حتى إذا انتهى وقت محاضرته اكتفى بما ناقشه مع طلابه ؛ ليستكمل موضوعه فيما بعد فى المحاضرات التالية ، دون أن يحيف على وقت زملائه ، الذين كان معظمهم بمثابة أبنائه وتلاميذه ومريديه!
وفى إحدى محاضراته كان يبدو على الرجل من الإعياء ما لا يستطيع أن يخفيَه ، إلا أنه دخل قاعة الدرس فى الوقت المحدد له تماما ، فالتمس كرسيا ليجلس عليه ولم تكن هذه من عادته ، وقبل نهاية المحاضرة بخمس دقائق اعتذر الرجل لتلاميذه ، لينهى محاضرته لِمَا يُعانيه من ألم وإجهاد. وعلم الطلاب بعدها أن درجة حرارته أشرفت على 40 درجة مئوية ، وفى اليوم التالى كان الرجل فى المدرج يلقى على الطلاب ، خلاصة تجاربه ودراساته ، فى صوت قوى النبرات واضح المعالم ، ويباشر كل مهامه كما لو لم ينتبه شىء قط ! أى نمط من الرجال هؤلاء ، الذين ينسون أمراضهم أو يشفون منها ، بانهماكهم فى العمل وأداء الواجب!
اهتمامه باللغة العربية:
كما كان ـ رحمه الله ـ على الرغم من حذقه التام للغة الإنجليزية كتابة وحديثا ، يصرّ على إلقاء محاضراته باللغة العربية الفصحى ، حتى فى مقررات السنوات النهائية ، التى تتطلب ترجمة لمصطلحات علمية مُعقدة وحديثة إلى حد كبير ، واضعا فى اعتباره أن التعليم الصحيح يجب أن يكون باللغة المحلية ، ومن ثمّ فقد قاد دعوة جادة لتعريب العلم وتدريسه فى الجامعات باللغة العربية ، وظل يواصل دعوته تلك زمنا طويلا يربو على أربعين عاما ، وليس معنى ذلك أنه كان لا يعبأ بتعلم اللغات الأجنبية ، بل كان يحض على ذلك بكل السُّبل ، فقد كانت معظم المراجع والكتب العلمية متوافرة فقط باللغات الأجنبية ، لا سيما الإنجليزية ، حيث لم تكن ” موضة” الكتب والمذكِّرات الجامعية ، التى أنكرها ومَقتَها ، قد تفشت بعد. وقد بدت إرهاصات هذه الدعوة مبكرا ، فى افتتاحية أول عدد من مجلته ” رسالة العلم” عام 1934حيث يقول: بدأت الطلائع الأولى تتخرج فى كلية العلوم حاملة عَلَم الجهاد فى ميادين العلم والعرفان مؤدية واجبها نحو والوطن ونحو العلم ، وكان لها أن تفكر فى إخراج صحيفة عامة تكون أداة اتصال بين الخريجين وترجمانا صادقا لبحوثهم ومختلف ميادين نشاطهم العلمى وأن تكون أداة لنشر العلوم بلغتنا القومية ، فإن لغة الدراسة بالكلية أجنبية ، ونحن نرجو مخلصين أن تتهيأ الظروف للغة العربية لتكون لغة العلم فى هذا البلد ، ولعلى إذ أردد هذه الأمنية الصادقة من أعماق قلبى إنما أضرب على قيثارة شجية ، تترنم بها أفئدتنا جميعا ، فمن ذا الذى لا تردد مشاعره هذا اللون الذى أرتجيه ، والذى آمل أن يحققه الزمن فى المستقبل القريب. فاللعة العربية إنما هى أمانة فى أعناقنا وواجبنا إنماء ثروتها العلمية.
ويقول بعد ذلك بأربعة عقود فى المجلد التاسع والثلاثين من العدد الرابع من مجلة “رسالة العلم” عام 1972م ، تحت عنوان : اللغة العربية لغة التدريس فى الجامعات العربية” ، ما نصه: لا مِراء فى أن التعليم ، فى كل بلاد العالم ، يت باللغات القومية لتلك البلاد ، فيما عدا قلة ضئيلة ، تلك التى تعددت فيها اللغات الإقليمية أو التى خضعت للاستعمار الأجنبى ردحا طويلا ، فاضطر لاستخدام لغة المستعمر لغة رسمية وتعليمية لها.
ثم يؤكد أن تحقيق ديمُقراطية التعليم لا يتم على وجهه الصحيح ما لم يكن باللغة القومية ، ثم يتساءل بحسرة: ولست أدرى إذا لم تكن العربية هى لغة التدريس فى الجامعات العربية ، فلماذا يتعيَّن أن تكون الإنجليزية أو الفرنسية أو الروسية؟ إن استخدام اللغة العربية فى التعليم الجامعى ، إنما هو وسيلة أكيدة للابداع العلمى ، وربط الجامعة بالمجتمع ، ورفع المستوى العلمى والثقافى للأمة ، ويمنع الانفصال بين التفكير والتعبير ، فيؤدى إلى انطلاق اللسان بالتعبير السليم دون تردد أو قلق. إن الدعوة إلى بناء المجتمع العربى تبقى ناقصة إذا أغفلت التركيز على اللغة العربية باعتبارها المقوِّم الرئيسى للوجود العربى ، إذ إن هذه اللغة الفصحى هى وحدها جامعة العرب ، وهى وحدها التى يجتمع حولها العرب على سواء ، لا فرق بين تهامة ونجد أو بغداد والقاهرة أو دمشق وفاس أو الكويت والخرطوم ، إنما يجمع هؤلاء جميعا لسان العربية المبين.
ثم يستدرك الرجل فيقول: وليس معنى اتخاذ اللغة العربية لغة التدريس فى الجامعات والمعاهد ، عدم العناية باللغات الأجنبية ، بل على النقيض ، إن ذلك أدعى لمضاعفة الجهد فى سبيل تقوية الطلاب فى اللغات الأجنبية ، وذلك لمتابعة الاطلاع على المنجزات العلمية بلغاتها الأصلية .. ثم جعل الرجل يواصل دعوته تلك مقترحا الدعوة إلى توحيد المصطلحات العلمية بين الدول العربية ليعلن أن الحاجة ماسة إلى “معجم علمى عربى مُوحَّد”.
مؤلفاته:
للدكتور منتصر أبحاث رائدة فى مجال البيئة النباتية والتربة المصرية ، وقد نشر فى هذا المجال 75 بحثا وورقة علمية ، كما أشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه ، وشارك فى تنظيم عدد كبير من المؤتمرات العلمية فى العواصم العربية وفى مدينة الإسكندرية. وكان أول من نادى بإنشاء وزارة مستقلة للبحث العلمى على صفحات مجلة “الهلال”(5) فى أوائل الستينات من القرن الماضى.
وقد ترجم الرجل وراجع عشرات الكتب من الإنجليزية إلى العربية ، من أبرزها ” تاريخ العلم” لجورج سارتون ، كما نقل إلى العربية بتكليف من هيئة الأغذية والزراعة ، التابعة للأمم المتحدة ، ” معجم مصطلحات علم البيئة والمراعى”. كما شارك فى مراجعة المعجم العسكرى الموحد (نحو 80000 مصطلح) ومعجم المصطلحات العلمية والفنية (نحو 35000مصطلح) والمعجم الوسيط (نحو 70000مصطلح). كما قام الدكتور منتصر بتحقيق بعض الكتب العلمية من تراثنا القديم.
أما مؤلفاته بالعربية فمنها: حياة النبات ، الذى حصل به على جائزة التفوق العلمى ، فى احتفال كبير أقامته وزارة المعارف المصرية عام 1938 ، حضره وزيرها آنذاك الدكتور محمد حسين هيكل ورئيس الجامعة أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد باشا.
ومن مؤلفاته أيضا: التربة المصرية ـ أسس علم النبات(مشترك) ـ النتح فى النباتات الصحراوية ـ بيئة بحيرة المنزلة ـ صحارى مصر (مشترك) ـ نباتات مصر (مشترك) ـ الوراثة والجنس ( سلسلة اقرأ) ـ حرب الخامات (سلسلة اقرأ) ـ تاريخ العلم ودور العلماء العرب فى تقدمه (دار المعارف) ـ أثر العرب والإسلام فى النهضة الأوربية ( مشترك ، بالعربية والإنجليزية) ـ الموجز فى تاريخ الطب والصيدلة (مشترك) ـ العلم فى حياة الإنسان ( العدد رقم 2 من سلسلة “كتاب العربى”).
والواقع أن من يتصفح هذا الكتاب الأخير يجد فيه صورا مُصَغَّرَة لرحلة كفاح هذا الرجل ، والقضايا التى نذر حياته لها ، والتى تتمثل فى إبرازه وتسجيله لتاريخ العلوم عند العرب ، واهتمامه بالعلم عامة والفكر العلمى وبعلم النبات على وجه الخصوص ، وبعلم البيئة النباتية على وجه أخص ، ويجد أيضا اهتمامه باللغة العربية ، وقضية تعريب التعليم الجامعى ، ومن ثمَّ اهتمامه بمعاجم المصطلحات العلمية ـ وكان آخر كتبه: ” ذكريات عطره وهؤلاء علمونى” (دار المعارف) ، وعلى الرغم من صدور هذا الكتاب الهام عن دار لها سمعتها العلمية ، وتاريخها الطويل فى نشر مختلف الألوان الثقافية والفكرية ، على الرغم من كل ذلك فقد جاء الكتاب فى أسوء صورة ، لا تليق بالرجل ومكانته العلمية ، ويبدو أن القدر لم يمهل الرجل حتى يُراجع بنفسه ” بروفات” كتابه ، وفى الوقت ذاته لم تُكلف الدار أحدا من تلاميذه ومريديه ، أو حتى أحد موظفى الدار المعروفين فى حقل المراجعة بكفاءتهم ، حتى يخرُج الكتاب فى صورة أفضل مما خرج بها ، حتى أن الكتاب يحمل عنوانين أحدهما مثبت بالغلاف الخارجى بعنوان: “ذكريات عطرة ، هؤلاء علمونى” أما العنوان الثانى فيطالعه القارئ فى الغلاف الورقى الداخلى الذى جاء بعنوان: ” ذكريات عطرة وخواطر عابرة” ، وأغلب الظن ان هذا هو العنوان الحقيقى للكتاب!
هذا ، وقد شارك الرجل فى تحقيق الكثير من كتب التراث ، من أهمها موسوعة “الشفاء” لابن سينا. هذا ، بخلاف مئات من المقالات العلمية والأدبية فى الدوريات الثقافية بمصر والبلاد العربية ومنها مجلات: ” الرسالة” و” الهلال” و” الثقافة” و” العربى” و” الجديد” و” مجلة مجمع اللغة العربية” ، و ” رسالة العلم” ، وغيرها.
فى إحدى الرسائل العلمية ، التى أشرف على إعدادها لأحد طلاب الدراسات العليا بالمعهد العالى للدعوة الإسلامية ، والتى تقع فى نحو 400 صفحة ، أشار الدكتور منتصر على الباحث إضافة: أن الإسلام لا يمكن أن يرضى بالتأخر عن ملاحقة ركب التقدم العلمى والمادى ، على أن يكون ذلك فى حدود تعاليم الشريعة السمحاء ، وأنه ينبغى أن يواكب ركب الحضارة فى الزراعة والصناعة والحرب والسلم ، وأن نفيد من مواكبة العلم ، والاستفادة من مكتشفاته فى استصلاح الأراضى ، وإنتاج السلالات الأوفر إنتاجا والأكثر مقاومة للآفات ، والأسمدة وما إليها من كل ما يزيد الإنتاج ليطعم الناس ، الذين يتزايدون عاما بعد عام ، وأن نفيد من العلاجات والأدوية والمكتشفات الطبية ، التى أتت على كثير من الأوبئة التى كانت تفتك بالناس ، وأن نصنع الأسلحة من مدفعية ونفاثات ونووية وصواريخ ، فلم يعد ينفع السيف والقوس والرمح ، وذلك مصداقا لقوله تعالى: ” وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة “(5) ، وحديث النبى صلى الله عليه وسلم ” المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف”. ثم يردف: وكذلك الصناعات المستحدثة من خيوط صناعية ، تسهم فى كساء البلايين من البشر ، الذين لم تعد تكفيهم خيوط القطن والكتان ، وما يُصنع من مواد بروتينية من البترول ، تسهم فى تغذية هذه الأفواه المتزايدة ، والصناعات الحديثة فى كل مجالات الحياة. أليس من واجب المسلم أن يأخذ حظه منها ، وأن يسهم فى مواكبتها ، على أن يكون ذلك مع تمسكه بقيم وخلق دينه الحنيف(6). رحم الله الدكتور منتصر رحمة واسعة وأبقى ذكره فى الخالدين ، جزاء ما قدم لبلده وأمته والناس أجمعين.
عضوية مجمع الخالدين:
ولدخوله مجمع الخالدين مبكرا نسبيا قصة تستحق الرواية: ففى الأربعينات من القرن الماضى ، قرأ الرجل فى الجرائد أن مجمع اللغة العربية بالقاهرة قد ألف لجنة للحضارة الحديثة ، فوجد أن معظم أعضائها من أساتذة اللغة العربية ، فأرسل خطابا خاصا للأستاذ احمد لطفى السيد وكان وقتها رئيسا لمجمع اللغة العربية ذكر فيه أن الحضارة الحديثة قامت على اكتاف العلم ، ولا يستطيع أن يعطى المدلول الحقيقى لكلمة فى العلم غلا شخص مارس استعمالها ، ثم أردف قائلا: وكم احب يا رجال الآداب أن تعلموا أن رجال العلوم لا يقلون عنكم غيرة على اللغة. ثم يقول الدكتور منتصر: فارسل إلىّ أستاذ الجيل خطابا خاصا يدعونى للحضور إلى مكتبه فى المجمع ، وكان آنذاك فى ميدان التحرير ، فذهبت فى الموعد المُحدّد قائلا السلام عليكم. فأجاب: وعليكم السلام ، جاى تناكف فى إيه تانى!”. قلت: أستغفر الله يا معالى الباشا. قال: استغفر الله كيف تشاء يمكن يغفر لك!” ، ثم نظر إلى الأستاذ أحمد أمين قائلا: هل تعرف فلانا؟ لقد حضرت له كم مناظرة ، وكم محاضرة فعجبنى واستخسرته فى كلية العلوم . ثم نظر إلىّ قائلا: جوابك عجبنى ، وأنا غلطان وأنت معك حق. فقلت: معاليك أبو الجامعات وأدرى بهذه الأمور. قال: دعك من هذه الديباجة ، وما ستقوله سينفّذ. فجلست أمامه نتحدث عن تأليف لجان متخصصة من أساتذة الجامعات فى الطب والهندسة والكيمياء والجيولوجيا والحياء والزراعة وما إليها ، ويحضر كل لجنة عضو أو أكثر من أعضاء المجمع ليشرف على الصياغة اللغوية ، أما الشرح العلمى فهو من عمل المُختصين. وقد كان .. فأخذ المجمع بهذا النظام منذئذ. وكنت أحضر عددا من هذه اللجان كخبير ، إلى أن رُشحت وانتخبت عضوا بالمجمع(7).
وزارة للبحث العلمى ومزيد من الجامعات:
كان الدكتور منتصر يتمتع بجملة من الصفات قلما تتوافر فى شخص واحد ، من ذلك أنه وهِب شفافية ورؤية ثاقبة ، فكان يستطيع بحسه أن يُشخِّص ما لايراه الكثيرون من أدوائنا ويستطيع فى الوقت ذاته أن يصف الدواء فى غير مجاملة أو مواربة ، ولم يكن من الذين “يمسكون بالعصا من منتصفها” ، والأصل فى ذلك كان إخلاصه الجم ، وترفعه عن الصغائر ، وكل ما من شانه أن يشين أو يهين. ويتفرع عن ذلك أيضا صفة أخرى وهى أنه قد وُهِب ملكة نقدية كانت تفرض نفسها عليه بغير مجاملة أو تحامل ، كما كان لا يخشى فى الحق أحدا مهما كان ؛ ولذلك كان ينتقد بقدر كبير من الصراحة بعض الفعاليات والأنشطة ، التى يرى أن فيها بعض السلبيات ، حتى لو كانت تحت إشرافه! ولعل هذه الصفات قد أحنقت عليه الكثيرين. ولذا فقد كان لايكف عن طلب المزيد من الاصلاحات من الحكومات المتعاقبة ، فكان أول المنادين بإنشاء وزارة للبحث العلمى ، وقد أطلق هذه الصيحة المُدوية لأول مرة فى مقال له على صفحات مجلة “الهلال”(8) ، وقد قدم محرر “الهلال” هذا المقال بتعليق جاء فيه: هذا رأى جديد يتفق ونهضة مصر الجديدة ، فمما لا ريب فيه أن التقدم العلمى والثقافى يحتاج على تشجيع وتنمية وتنسيق لأعماله ليزداد إنتاجه ، ويجعل المة اقدر على تحقيق ما تهدف إليه من رقى.
وقد كان لا يكفُّ ـ رحمه الله ـ عن طلب تدعيم البحث العلمى بصور شتى ، سواء بالمال أم بالأجهزة الحديثة أم بالمجلات والكتب العلمية المتخصصة ، إلى غير ذلك من مستلزمات البحث العلمى الجاد.
من ذلك أيضا دعوته إلى “إنشاء المزيد من الجامعات والمعاهد” منذ أكثر من أربعين عاما ، وكأنه بين ظهرانينا اليوم ، يعايش قضايانا ويرى ما نعانى منه ، ويصف العلاج المناسب ، فكتب تحت هذا العنوان ما يلى: كان ازدياد أعدادالطلاب المتدفقين على الجامعات ، عشرات الألوف سنويا ، من الحاصلين على الثانوية العامة ، بعد نجاح كثير منهم ، نجاحا مشوبا ، مع نقص الإمكانات المعملية والمكتبية ، وضعف الميزانيات ، ضغثا على إبالة ، مما زاد الطين بلة ، وبات يخشى على مستوى التعليم الجامعى ، أن يتابع هبوطه ، فيصعب او يتعذر الارتفاع به مرة أخرى. ثم تتابُع تعديل اللوائح والقوانين الجامعية ، تحت اسم التطوير ، وربط العلم بالمجتمع ، وربط البحث العلمى بالإنتاج ، وغير ذلك من عبارات ، قد يكون لها بريق أخاذ ، وقد يكون فى بعض ما قيل فى هذا المجال حق ، ولكنه حق أريد به غيره ، ولم تكن نتيجته خيرا على أية حال. ولعلنا لا ننسى تجربة “الفصول” ، و “الامتحانات الفصلية” ، وما قيل من تساؤلات فى معرض التهكم على البحث العلمى ، من مثل: وما جدوى البحث فى “أم أربعة وأربعين” ، وما فائدة البحث فى فلسفة أرسطو وابن رشد … وهذه الأبراج العاجية .. إلى آخر ما قيل فى هذا المجال ، مما لا اظنه يُرضِى العلم ولا العلماء … وازدادت هجرة العلماء ، إما إلى أعمال أخرى أو إلى بلاد أخرى ، مما زاد هيئات التدريس وهْنا على وهْن! … ولعل الأجدى من ذلك كله ، تهيئة أسباب العمل الجدى المنتج للأساتذة والطلاب ؛ ليعملوا فى جو من الألفة والود والحرية ، تشيع فيه الروح الجامعى الصحيح ، مع توفير إمكانات التعليم الجامعى السليم ، وعدم حشد الطلاب فى المدرجات والمعامل بأعداد تفوق طاقتها بما لا يتفق والإعداد العلمى السليم ، وإمداد المعامل بحاجتها من الأجهزة. وليس من شك فى أننا بحاجة إلى جامعات ومعاهد متخصصة أخرى ، تمتص بعض هذه الألوف المتزايدة من الحاصلين على الثانوية العامة ، ومن الخير أن تعمل الدولة جادة على تأسيس جامعات جديدة ، إما أن تنشئها هى .. أو تسمح بإنشاء جامعات أهاية تُعِينُها الدولة ، كما تعين المدارس الخاصة. ولعلنا لا ننسى فى هذا المقام أن الجامعات فى كثير من الدول الأوربية أهلية ، تُعِينُها الدولة ، وأن جامعتنا الأم “المصرية” ، عاشت سبعة عشر عاما أهلية قبل أن تتحول إلى جامعة حكومية(9).
الهوامش والتعليقات:
- د. عبد الحليم منتصر (1992). ذكريات عطرة: هؤلاء علمونى. دار المعارف بمصر. ص87.
- أكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا (1996). تأريخ الحركة العلمية فى مصر الحديثة (العلوم الأساسية) ،10ـ علم النبات. القاهرة . ص 300.
- استقينا هذه المعلومات من كتابه سلف الذكر ، ص210 ؛ ومن كتاب المرحوم الدكتور محمد مهدى علام ، المعنون: ” مجمع اللغة العربية فى ثلاثين عاما ، ـ2 ـ المجمعيون . مطبوعات مجمع اللغة العربية بالقاهرة . ص 88.
- راجع مجلة “الهلال” ، عدد أكتوبر 1961.
- الأنفال :60.
- المصدر رقم 1 ، ص 206.
- المصدر السابق ، ص 8.
- د. عبد الحليم منتصر (1957). وزارة للعلم ووزارة للثقافة . مجلة الهلال . عدد فبراير . ص 13.
- د. عبد الحليم منتصر (1968). حاجتنا إلى مزيد من الجامعات والمعاهد المتخصصة. مجلة “رسالة العلم” ، السنة الخامسة والثلاثون ، العدد الأول ، ص1.