المكيّ والمدنيّ وترتيب النزول
بقلم الدكتور / محمد العربى
اصطلاحات العلماء في المكي والمدني :
للناس في المكيّ والمدنيّ اصطلاحات ثلاثة :-
أولها وهو أشهرها :
أن المكي ما نزل قبل الهجرة ، والمدني ما نزل بعدها سواء نزل بمكة أم بالمدينة عام الفتح أو عام حجة الوداع أم بسفر من الأسفار .
ثانيها : أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة ، والمدني ما نزل بالمدينة وعلى هذا ثبت الواسطة فما نزل بالأسفار لا يطلق عليه مكي ولا مدني . أخرج الطبراني من حديث ابن عامر عن أبى إمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة : مكة والمدينة والشام” . قال الوليد يعنى بيت المقدس .
ثالثها : أن المكي ما وقع خطاباً لأهل مكة ، والمدني ما وقع خطاباً لأهل المدينة .
الضوابط التي يعرف بها المكي والمدني
لمعرفة المكي والمدني طريقان :
1 – سماعي : وهو النقل الصحيح عن الصحابة والتابعين بأن سورة كذا أو آية كذا نزلت بمكة أو بالمدينة .
2 – قياسي : فضوابطه مبناها على التتبع والاستقراء المبنى على الطالب والكثير .
ضوابط المكي :
1 – كل سورة فيها (كلا) مكية ، وقد وردت في القرآن ثلاث وثلاثين مرة في خمس عشر سورة كلها في النصف الأخير ، قال الدريني رحمه الله :
وما نزلت “كلا” بيثرب فاعلمن
ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى
والحكمة في ذلك في ذلك أن النصف الأخير نزل أكثره بمكة ، وأكثر أهلها جبابرة فتكررت (كلا) على وجه التهديد والتعنيف لهم والإنكار عليهم بخلاف النصف الأول وما نزل منه في اليهود لم يحتج إلى إيرادها فيه لذلتهم وضعفهم .
2 – كل سورة فى أولها حروف المعجم فهي مكية ، سوى البقرة وآل عمران فهما مدينتان باتفاق ، وفى الرعد خلاف .
3 – كل سورة فيها قصة آدم وإبليس فهي مكية ، سوى البقرة .
4 – كل سورة فيها سجدة مكية ، سوى الحج عند من يقول أنها مدنية .
5 – كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الماضية مكية ، سوى البقرة وآل عمران .
ضوابط المدني :
1 – كل سورة فيها ذكر الحدود والفرائض مدنية .
2 – كل سورة فيها ذكر المنافقين وأحوالهم مدنية ، سوى سورة العنكبوت فهي مكية إلا إحدى عشر آية من صدرها فإنها مدنية وهي التي ذكر فيها المنافقون .
3 – كل سورة فيها الإذن بالجهاد أو الأمر به وأحكامه والصلح والمعاهدات فهي مدنية ، سوى سورة الحج عند من يرى أنها مكية .
مميزات المكي والمدني
قد امتاز كل من المكي والمدني غير ما تقدم من الضوابط بأمور كثرت فيه وسمات بارزة تميزه عن غيره ، وهذه المميزات ترجع إلى المعنى والموضوع والخصائص البلاغية فهي أدل وأدق وأشمل من الضوابط لأن غالبها يرجع إلى اللفظ والشكل .
مميزات المكي :
1 – الدعوة إلى أصول الإيمان الاعتقادية من الإيمان بالله واليوم الآخر وما فيه من البعث والحشر والجزاء ، والإيمان بالرسل والملائكة ، وإقامة الأدلة العقلية والكونية على ذلك .
وهي التي يدور عليها غالباً الحديث في السور المكية ، لأن القوم كانوا منغمسين في حياة الشرك والوثنية ولا يقرون بالنبوات ولا بالبعث وما بعده .
2 – محاجة المشركين ومجادلتهم وإقامة الحجة عليهم في بطلان عبادتهم الأصنام ، وبيان أنها بمعزل عن الألوهية واستحقاق العبادة ، وأنها لا تضر ولا تنفع ولا تعى أي شيء .
ودعوتهم إلى استعمال عقولهم ونبذ التقليد بغير حجة وعلم . وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ [الآية 21 سورة لقمان] .
وإقامة الأدلة على أن القرآن حق لا شك فيه ، وأنه من عند الله ، وقد وقع التحدى بالقرآن في ثلاث سور مكية ولم يقع التحدى به في القسم المدني إلا في سورة البقرة .
3 – الدعوة إلى أصول التشريعات العامة والآداب والفضائل الثابتة التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان لا سيما ما يتعلق منها بحفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسب وهي الكلمات الخمس التي تتفق فيها جميع الشرائع السماوية كالحث على الثبات على العقيدة والاستهانة بكل شيء في سبيلها والأمر بالصلاة والصدقة ، والصدق ، وبر الوالدين ، وصلة الرحم ، والعفو ، والعدل والإحسان ، والتواصى بالحق ، والنهى عن القتل ووأد البنات ، والظلم .
4 – ذكر قصص الأنبياء مع أقوامهم . ليكون في قصصهم عبرة وموعظة لأولى الألباب . لبيان أن دعوة الرسل جميعاً واحدة ، وأنهم جاءوا بالتوحيد الخالص والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . ولقد كان ذكر القصص في القسم المكي من أعظم الأدلة على أن القرآن من عند الله إذ لو تأخر نزوله إلى المدنية لقالوا : تعلمه من أهل الكتاب لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
[الآية 111 سورة يوسف] .
5 – قصر أكثر آياته وسوره ، لنزوله بمكة وأكثر أهلها يمتازون بعلو كعبهم في الفصاحة والبلاغة وتملكهم لناصة القول والخطابة ، والشعر وبلوغهم الفابة في لطف الحس وذكاء العقل . فكان المناسب لهم العبارات الموجزة ، الجرس القوى فتصخ الآذان وتستولى على المشاعر وتعقل ألسنتهم عن المعارضة وتدعهم في حيرة ودهشة مما يسمعون .
مميزات المدني :
1 – بيان العبادات ، والمعاملات ، والحدود ، ونظام الأسرة ، والمواريث ، وفضيلة الجهاد ، والصلات الاجتماعية ، والعلاقات الدولية في السلم والحرب ، وقواعد الحكم ومسائل التشريع .
2 – مخاطبة أهل الكتاب من اليهود والنصارى ودعوتهم إلى الإسلام ، وبيان تحريفهم لكتب الله وتجنيهم على الحق ، واختلافهم من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم .
3 – الكشف عن سلوك المنافقين وتحليل نفسيتهم ، وإزاحة الستار عن خباياهم وبيان خطرهم على الدين .
4 – طول المقاطع والآيات في أسلوب يقرر الشريعة ويوضح أهدافها ومراميها .
قال أبو الحسن بن الحصار في كتابه الناسخ والمنسوخ : المدني باتفاق عشرون سورة والمختلف فيها اثنتا عشر سورة وما عدا ذلك مكي باتفاق