هروب إلى صراع الأولويات
د. محمد السعيد إدريس
[email protected]
من يتابع الإنتاج العلمى والثقافى المهتم بالبحث فى موضوع “أى عالم بعد أزمة كورونا” فى مقدوره أن يضع يده على إنتاج هائل هدفه الأساسى دحض رجاحة أفكار مهمة ترى أن أصل الداء كامن فى عمق النظام الرأسمالى العالمى الذى تحول من الليبرالية إلى “التوحش”، وأن هذا النظام الرأسمالى المتوحش هو الذى يجب أن يسقط إذا كانت هناك نية حقيقية للتأسيس لنظام عالمى جديد أكثر رجاحة وكفاءة فى مواجهة التحديات وتحقيق الأهداف التى تأملها البشرية، والمقصود هنا بالسقوط هو “سقوط مرتكزات التوحش” الكامنة والمتأصلة فى ما يعرف بـ “الرأسمالية المعولمة” أو “النيوليبراليزم”، كما ترى هذه الأفكار أن أوضاع العالم لن تعود إلى طبيعتها بعد إنتهاء الجائحة الفيروسية لسبب بسيط هو أن “هذا الطبيعى كان هو المشكلة” على نحو ما حرص عالم اللغويات الأمريكى نعوم تشومسكى أن يلفت الأنظار. ومن أبرز معالم هذا الطبيعى أو الذى كان طبيعياً قبل الجائحة، والذى يجب أن يتغير هو السيطرة الأمريكية على النظام العالمى عسكريا واقتصادياً وسياسياً وهو أيضاً معالم “التوحش” فى النظام الرأسمالى العالمى، كما ترى هذه الأفكار أن “الناجين من كورونا سيتحكمون تلقائياً فى الترتيبات التى ستفرض نفسها عالمياً بعد انقضاء خطر كورونا”.
خلاصة هذه الأفكار تتنبأ بالسقوط للنظام الرأسمالى الذى فقد ليبراليته والسقوط الأمريكى معاً، وتتنبأ فى ذات الوقت بحتمية ظهور منظومة جديدة من القيم “الأكثر إنسانية وإعلاءً لشأن التعاون والتضامن العالمى ونبذ كل أشكال التمييز والاستغلال، وصعود الصين إلى مركز الصدارة”.
هذه الخلاصة هى التى تفسر حالة الهياج الشديدة الحالية عند الرئيس الأمريكى دونالد ترامب مدعوماً بآلة جهنمية من مراكز إنتاج الأفكار والمؤسسات الإعلامية هدفها الانحراف بهذا النوع من مسار التفكير وفرض “معركة استبدال الأولويات” على الرأى العام العالمى.
فبدلاً من أن ينشغل العالم بمستقبله بعد القضاء على جائحة كورونا، وهو الانشغال الذى سيفتح حتماً الملفين المحوريين: مسئولية التوحش الرأسمالى والأفول الأمريكى وطرح البديل الصينى، يدفع الرئيس الأمريكى وتسانده فى ذلك فرنسا وبريطانيا بفرض أولوية البحث فى تحديد من المسئول عن تفشى جائحة كورونا، وتوجيه السهام بالتحديد نحو الصين، وفرض معركة “تصفية الصين” فى حرب استباقية قبل أن يتحول العالم كله لتصفية حسابه مع التوحش الرأسمالى ويستعد للتأسيس لمعالم نظام عالمى جديد أكثر إنسانية بزعامة عالمية جديدة.
بهذا المسعى الذى يهدف إلى تفجير “حرب باردة عالمية ضد الصين” يحاول الرئيس الأمريكى البحث عن “كبش فداء” يحمله مسئولية قصور الإدارة الأمريكية فى مواجهة خطر الأزمة كى لا ينشغل بالبحث عن البديل، وكى لا ينصرف الشعب الأمريكى، فى هذه الظروف الانتخابية الصعبة، للبحث فى مسئولية ترامب وإدارته عن الأزمة ويقتص منه فى التصويت الانتخابى. ووصل انشغال الرئيس الأمريكى بهذه القضية إلى درجة التفكير فى احتمال إرجاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية التى من المقرر أن تجرى فى شهر نوفمبر من هذا العام إلى أجل غير مسمى تحت زعم أن “الظروف غير مناسبة لإجراء الانتخابات” خصوصاً إذا وصل إلى يقين بحتمية خسارته هذه الانتخابات. وعندما فشلت خطة تحميل منظمة الصحة العالمية مسئولية تفشى الوباء يتجه الآن دونالد ترامب إلى تحميل الصين هذه المسئولية وانطلاقاً من هذا التوجه بدأت معركة “الانحراف بالأولويات” بإعطاء الأولوية لمحاسبة الصين باعتبارها الطرف الدولى المسئول عن تفشى الوباء والمطالبة ببحث هذه المسئولية فى مجلس الأمن ومطالبة الصين بفتح مختبراتها أمام العالم فى خطوة إنتهاك فاضحة للسيادة الصينية والنيل من مكانة الصين، وهو الأمر الذى ترفضه الصين بالمطلق وتراه “محاولة محمومة لتسييس أزمة جائحة كورونا” وتطالب بإعطاء كل الأولوية للتصدى لهذه الجائحة عبر المزيد من التعاون والتضامن الدولى، كما تتضمن هذه المعركة التركيز على أن الولايات المتحدة لن تخرج مهزومة من هذه الجائحة وعلى أن “الصين لن تكون الزعامة البديلة للعالم”.
وإذا كان منطق نفى حقيقة “الأفول الأمريكى” المحتمل يبدو منطقاً ضعيفاً ومتهالكاً، فإن هناك من يحاولون الاعتراف جزئياً بإحتمالية تعرض الولايات المتحدة لخسارة جزئية لقدراتها ومكانتها، لكنهم يؤكدون على أمرين أولهما أن الصين هى الأخرى ستخسر الكثير من قدراتها فى معركتها ضد فيروس كورونا خصوصاً مع تفشى الركود العالمى والتراجع الشديد فى قدرات التصدير الصينية للخارج، لكن الأهم هو التأكيد على أن الصين لن تكون القوة البديلة التى سيكون فى مقدورها أن تكون وريثة للولايات المتحدة فى زعامة العالم، وأن العالم لن يستقر على قيادة عالمية فى المستقبل القريب أو المتوسط، وأن الأرجح ان تسود حالة من وجود “نظام دولى بلا أقطاب” أو “بلا قيادة”.
حالة الانزعاج ، وربما الهلع التى تسيطر حالياً على كثير من مؤسسات الفكر والإعلام الأمريكية خصوصاً والغربية عموماً امتد إلى حلفاء واشنطن وفى مقدمتهم إسرائيل التى تشعر بانزعاج شديد وربما خوف من التداعيات المحتملة لخسارة الولايات المتحدة مكانتها العالمية، خصوصاً وأن إسرائيل ليست لديها أوراق التأثير على القرار السياسى الصينى كما هى حال علاقة إسرائيل مع الولايات المتحدة. ولعل هذا ما دفع قسم التخطيط السياسى بوزارة الخارجية الإسرائيلية لإعداد “وثيقة” تبحث فى التحولات المستقبلية لعالم ما بعد كورونا وموقع إسرائيل ضمن هذه المعالم تحت إشراف أورن أنوليك رئيس إدارة التخطيط السياسى بالوزارة.
اعترفت هذه الوثيقة بأن “القرية العالمية المفتوحة ذات التجارة الحرة لن تبقى كما هى فيما بعد كورونا” بمعنى أن العولمة وما أدت إليه من انفتاح غير مسبوق فى الاتصالات والتواصل بين كافة أنحاء العالم، سوف تتراجع بدرجة ملحوظة. فالعالم، حسب الوثيقة، يسير باتجاه أزمة اقتصادية أشبه بأزمة الكساد الكبير الذى فرض نفسه على العالم فى عشرينيات وبداية ثلاثينيات القرن الماضى، وأن الناتج المحلى العالمى آخذ فى التراجع ومن المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه فى المستقبل بالتزامن مع ارتفاع نسبة البطالة فى الولايات المتحدة وأماكن أخرى بالعالم. لكن الأهم فى توقعات تلك الوثيقة الإسرائيلية أن أزمة كورونا “ستكون بمثابة محفز أو معجل لعملية صعود الصين كقوة عالمية” ومن هنا جاء التحذير الإسرائيلى من التغير فى علاقات القوة بين الولايات المتحدة والصين، وتوقعت أن يؤدى ذلك داخل الولايات المتحدة إلى توحد الجميع فى معركة المواجهة مع الصين، أما إسرائيلياً فقد أوصت الوثيقة بـ “ضرورة استمرار إسرائيل فى اتباع سياسة المحافظة على العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة كمصلحة عليا مع استغلال الفرض الاقتصادية وغيرها مع الجانب الصينى”.
توصية مفعمة بالانتهازية لكنها، فى ذات الوقت كاشفة لأهم معالم ما بعد كورونا التى يقاتل الرئيس الأمريكى لعرقلة تحولها إلى واقع جديد يعيشه العالم لكون الولايات المتحدة ستكون هى أول من سيدفع أثمانه.