كتب: عبد الرحمن هاشم
من المُسلم به أن الإنسان لا يعيش فى هذا الكون بمفرده ، إنما تحيط به عشرات بل آلاف من الكائنات الحية ، منها النافع وأكثرها الضار ، كما تكتنف بيئته أعدادٌ لا حصر لها من المواد الكيميائية ، وأنواع متباينة من السموم والملوثات التى قد تهاجمه من آن لآخر ؛ ولهذا لم يتركه الله تعالى خلوا من وسائل الدفاع التى تمكنه من حماية نفسه فى مواجهة كل أسباب المرض والإيذاء والضرر ، فمنحه جهازا دفاعيا قويا ، قادرا على تمييز ما يفيده مما يضره ، وهو مستعد دائما لمواجهة الهجمات والاعتداءات على الجسم ، سواء من خارجه أو من داخله.
وحول هذا “الجهاز الدفاعي القوي”، صدر كتاب متخصص للأستاذ الدكتور محمد فتحي فرج ضمن سلسلة الثقافة العلمية، وهو يتناول الحقائق العلمية الطبية بأسلوب سهل بسيط يناسب عموم القراء الذين هم في أشد الحاجة إلى قراءته في هذه الأيام الموبوءة بجائحة كوفيد-19 أو كورونا المستجد.
ووصف الأستاذ الدكتور محمد فتحي فرج، وهو رئيس تحرير سلسلة الثقافة العلمية (سابقا)، الإنسان -بشكل عام ـ بأن لديه حصانة تجعله قادرا على مقاومة العوامل الممرضة كالبكتيريا أو الفيروسات أو السموم الحيوية toxins التى تنتجها بعض هذه الكائنات الحية.
وافتتح مقدمة كتابه الماتع “جهازك المناعي كيف يعمل على حمايتك؟” بقوله: تواتر فى الثقافة الشعبية العامة ـ الخاصة بأمور الصحة والمرض ـ والتى تجرى على ألسنة الناس أن: “الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى”. فالصحة هى من أهم وسائل الاحساس بالسعادة ، والعزة ، والتماسك ، والقوة واللياقة فى المجتمع ، وذلك لبذل قصارى الجهد والنشاط ، واستثمار هذه الطاقة الحيوية فى العمل الدائب من أجل صالح الفرد والمجتمع ، وتحمُّل أعباء ذلك وتكاليفه ؛ إذ إن الإبداع والاختراع يحتاجان للصحة العقلية والبدنية ، لتوظيف مخرجاتهما فى إسعاد الإنسان والتمكين له فى الأرض.
وقد اتفقت الفطرة السليمة مع العلم الحديث فى ضرورة تجنب مجموعة من السلوكيات التى يمكن أن تضر بالإنسان وصحته فى أى مجتمع من المجتمعات ، ومن أمثلة ذلك تحريم الزنا ، وتجنب تناول المخدرات والمُسْكِرات التى ثبت علميا ـ فى العصر الحاضر ـ أنها تضر كثيرا بالجهاز المناعى ، بل تؤدى إلى الموت والهلاك ، فبسبب تأثير الخمور والمنشطات والمفترات يقع ما لا يقل عن 50 ٪ من حوادث المرور ، وجرائم القتل والاغتصاب ، والاعتداء على المحرمات ، بل والوقوع ضحية لكثير من الأمراض العقلية والنفسية والبدنية!
أما المَيْتة والدم المسفوح فإنهما مرتعٌ خصب للميكروبات والجراثيم ، ومصدر غنى بالملوثات التى يضر أكلهما ليس فقط بالجهاز المناعى ، ولكن بسائر أجهزة الجسم الأخرى. أما جرائم الزنا ، وسلوك اللواط المُشين والمُهين للإنسان بدنيا ونفسيا ، وجرائم الاغتصاب ، وغيرها فقد ثبت علميا أنها من أكثر الآليات والسلوكيات التى تدمر المجتمعات ، وهى أيضا من المصادر القوية للإصابة بالفيروسات الخطيرة ، وخاصة ذلك النوع المُسبب لمرض الإيدز AIDS. وسوف نشير فى هذا الكتاب بكلمة موجزة إلى خطورة هذا المرض ، كى يتجنب شبابُنا الوقوع فريسة له. ويقينًا ، فإن الابتعاد عن كل هذه الخبائث ينأى بنا ويقِينا ويُبعِدنا عن كل ما من شأنه أن يَفُتَّ فى عَضُدِ أجهزة مناعَتِنا ، ويضعفها ، ويجعلها عُرضة للأمراض المختلفة ؛ ومن ثم يؤثر بشكل مباشر على سلامة وقوة مجتمعنا ودولتنا.
وقد اشتمل القرآن الكريم على إشارات مهمة لمجموعة من النباتات والمغذيات التى ثبت علميا قدرتها على تقوية مناعة الإنسان ، وتحسين مقاومته للأمراض ، وسرعة شفائه من بعضها الآخر ، نتيجة لما تحفِل به هذه المواد من مكونات ، تُهاجم الأمراض ، وتعمل كمضادات للأكسدة ، ومِن ثمَّ تزيدُ مِن كفاءة جهاز المناعة ، كأنواع من الخضروات والفواكه المختلفة وكذا لحوم الأسماك والحيوانات البحرية الأخرى ، ومنها أيضا عسل النحل ، وغيره. كما جاء بالقرآن الكريم آيات كثيرة تُحَرِّم تناول الخمور التى تحتوى على الكحولات ، التى ثبت علميا ـ فى العصر الحاضر ـ أنها تضر كثيرا بالجهاز المناعى وبقية أجهزة الجسم الأخرى ؛ ومن ثمَّ تجعله عُرْضة للوقوع فريسة سهلة للكثير من الأمراض وأوجه الاضطراب والخلل المختلفة.
وفي حديثه المجمل عن فصول دراسته العلمية قال: قمنا فى الفصل الأول بتقديم نبذة تاريخية موجزة حول علم المناعة مع التركيز على ذكر أسماء أهم العلماء الذين أرسوا قواعد هذا العلم ، مع ذِكر تواريخ اكتشافاتهم ، أو نشر بحوثهم المهمة فى هذا المجال.
أما الفصلان الثانى فقد جاء تحت عنوان جهازك المناعى يحرس جسمك ، عَرَّفنا فيه بالمناعة وأهميتها بالنسبة للكائن الحى سيما الإنسان ، ثم أوردنا تجربة عملية توضح ماهيَّة المناعة ، كما ذكرنا مميزات الكائنات المُسببة للأمراض ، والعوامل والخصائص التى تجعل من كائن ما كائنا مُسبِّبا للأمراض ، كما تناولنا أهمية الجلد وضرورة بقائه صحيحا سليما معافى حتى يؤدى دوره المهم فى حماية الجسم وإكسابه مناعة ضد كثير من مسببات الأمراض المختلفة. كما تناولنا أيضا فى هذا الفصل تأثير الأسطح المخاطية ودورها فى مقاومة مسببات الأمراض ورفع مناعة الجسم ، وغير ذلك من موضوعات تخص الجهاز المناعى.
أما الفصل الثالث ، فقد تضمن التعريف بالدور الالتقامى لبعض أنواع خلايا الدم البيضاء فى مقاومة الأمراض الجرثومية. وقد تم إدراج معلومات مهمة فى الفصل الرابع لتوضيح ماهية الاستجابة المناعية ودورها فى إنتاج الأجسام المضادة كوسيلة من وسائل إكساب الجسم مناعة وحصانة للحماية والدفاع تُعرف بالمناعة الخلطية.
وفى الفصل الرابع تعرض د. محمد فتحي فرج لتوضيح آلية حدوث المناعة الخلطية ، ودور الأجسام المضادة فى إكساب الجسم مناعة ، مع وصف دقيق لتركيب الجسم المضاد.
أما الفصل الخامس فقد اهتم بعلاقة المناعة بالدم ومكوناته المختلفة ، كما اهتم الفصل السادس بتأثير مسببات الأمراض فى استثارة الجسم لتكوين مناعة تهاجمها لتقضى على مخاطرها، وتحافظ على الجسم من الوقوع فريسة للأمراض التى تسببها.
وقد تعرض الفصل السابع لبيان علاقة المناعة بالأمراض المعدية : البكتيرية والفيروسية والطفيلية ، مع التركيز على بعض الأمراض الخطيرة كالأيدز والبلهارسيا.
أما الفصل الثامن فقد تناول أهمية التغذية بالنسبة للمناعة. وفى الفصل التاسع تعريف ببعض الطرق المناعية لتشخيص بعض الأمراض ، وهى وسائل تقنية حديثة ، تفيد فى التشخيص الدقيق لبعض الأمراض كمدخل مهم للعلاج الطبى السليم. ولهذا يعتبر علم المناعة من العلوم الطبية والتطبيقية ، التى تعتمد عليها مِهَن التحاليل الطبية فى المختبرات والمعامل ، التى يتم فيها تحليل عينات تؤخذ من المرضى ، لتساعدهم فى تحديد وتشخيص الأمراض.
أما الفصل العاشر فقد رصد فيه المؤلف مجموعة كبيرة من الأطعمة التى تعزز وتعضد من وظائف الجهاز المناعى وتقاوم الأمراض. وقد أجاب المؤلف فى الفصل الحادى عشر عن سؤال مهم وطريف فى الوقت ذاته وهو: لماذا تكثر أمراض الحساسية فى الربيع؟
ثم تناول المؤلف فى الفصل الثانى عشر المناعة ضد الذاتية ، وبمعنى آخر ماذا يحدث حينما ينقلب الجهاز المناعى ضد الجسم الذى يحتويه ، ويحاربه بوسائله التى من المفروض أن توجه إلى أعدائه ، مُركزا على بعض الأمراض الناشئة عن الخلل فى الجهاز المناعى مما يجعل الجسم يهاجم نفسه ؛ ومن ثم تنشأ بعض أوجه الخلل التى تفضى إلى أمراض بعينها تعرف بأمراض المناعة ضد الذاتية. كما تناول الفصل الثالث عشر علاقة المناعة بالإنجاب.
وقد أنهى المؤلف كتابه بفصل لخص فيه مجموعة من الوصايا التى يجب مراعتها ، والاعتبارات التى ينبغى توافرها لتنشيط الجهاز المناعى ، ومساعدته على أداء دوره ووظائفه المهمة فى حماية الجسم والدفاع عنه عند الضرورة.
وعلى ضوء ما قدمنا ، فإن هذا الكتاب يهُم طائفة كبيرة من المتخصصين وغيرهم ، فهو ليس مهما فقط بالنسبة لأبنائنا من طلاب كليات العلوم والطب والطب البيطرى ومعاهد التمريض ، بل هو مهم أيضا لكل المشتغلين فى الحقل الطبى من الأطباء والمشتغلين بمهنة التحاليل الطبية.
أما المستهدفون الحقيقيون لهذا الكتاب فهم الباحثون عن الثقافة العلمية وعامة القراء ، الذين يبحثون عن الجديد فى مجالات العلوم المختلفة ، ومنها العلوم الطبيعية والطبية ، التى يتعرف المرء من خلالها على كيفية أداء الجسم لوظائفه ومهامه الحيوية مصداقا وتحقيقا للحث الإلهى لهذا ، من خلال قوله تعالى: “وفى أنفسكم أفلا تبصرون”. الذاريات : 21.
وهذه المناعة ، التى هى حصيلة وظائف الجهاز المناعى فى الجسم ، هى نعمة كبرى ، حباها الله للإنسان والحيوان ، حتى تستطيع أجسامها أن تقاوم الكائنات الممرضة ، التى تعيش فى بيئاتها بالملايين ؛ حتى إن الكائن الذى يولد بنقص فى مناعته قد يتعرض إلى الموت والهلاك ، حتى وإن وضِع فى جو خالٍ من الميكروبات.
ولهذا ، فإننا نستطيع القول ـ بكل تأكيد ـ إن المناعة هى أداة الكائن فى معركته فى سيبل البقاء فى الحياة ، وإذا أردنا أن ندلل على ذلك فلنا فى مرض نقص المناعة المكتسبة ، الذى يعرف اختصارا بمرض الأيدز AIDS أوضحَ مثل على هذا. فهذا المرض ـ وقانا الله وإياكم منه ـ يُصيب الإنسان جَرَّاء نقص محدود فى مناعته ، يفقِد على أثره القدرة على مقاومة مختلف أنواع مسببات الأمراض ، من بكتيرية أو فيروسية أو طُفيْلية ، حتى وإن كانت من النوع غير الخطير ، فتودى به إلى نهايته المحتومة ، وهى الموت.
وقد تنحرف وظيفة الجهاز المناعى عن دورها الأساسى ، فى مهاجمة مُسببات الأمراض المختلفة ـ داخل الجسم وخارجه ـ فتتحول إلى مهاجمة الجسم ذاته ، وهو الخلل الذى يُعرف بالمناعة ضد الذاتية ، والتى ينجم عنها كثير من الأمراض ، التى تُعرف بالأمراض المناعية ضد الذاتية Auto – immune diseases. وفى هذه الحالة تتحول المناعة من نعمة إلى نقمة.
وقد تتعدد هذه الأمراض وتتنوع ، وعلى سبيل المثال فإن من هذه الأمراض ما يُصيب الغدد الصماء ، ومنها أيضا ما يصيب الدم وعناصره المختلفة ، وقد تصيب هذه الأمراض الجهاز التناسلى الذكرى فتُؤدى إلى العقم الذكورى ، ومنها ما يصيب المفاصل والعضلات والجلد ، ومنها أيضا ما يصيب القولون أو الغدد اللعابية والدمعية ، وغيرها ، وكأن بعض الجسم يحارب بعضه الآخر.