من سمات ومزايا القصص القرآني
بقلم الدكتور محمد العربي
واقعيته وصدقه:
إن كل قصص القرآن وأمثاله ، وما ورد في هذا القصص والأمثال من أشخاص وأحداث ، هو من الواقع الذي لا شك فيه، وإذا كان لنا نحن البشر أن نلجأ إلى الخيال والوهم لننسج منهما قصصا ، وذلك حين يعجز الواقع عن أن يسعفنا بما نتصوره ونتمناه ، فإن قدرة الخالق جلّ وعلا لا يعجزها شيء .. تريد فيقع ما تريد ، كما أرادته ، دون قصور أو مهل ، إنها إرادة لا يخالطها وهم ، ولا يطوف بها خيال ، ولا تعللها الأمانيّ ..
تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا .. فالذين يرون أن من قصص القرآن ومن أمثاله ما لا يقع ، إنما يتهمون قدرة الله ، وينسبون إليه ما ينسبون إلى البشر من عجز وقصور (3) .
إن قصص القرآن الكريم ، قصص جادّ ، مساق للعبرة والعظة ، وليس فيه مجال للتسلية واللهو ، وليس من غايته ترضّى الغرائز المريضة ، أو تملّق الرغبات الفاسدة التي كثيرا ما تكون مقصدا أصيلا من مقاصد القصة عند كثير من كتاب القصص ، الذين يجذبون القراء إليهم بهذا الملق الرخيص للغرائز الدنيا ، التي تعيش في كيان الإنسان ، وتترفب الفرصة السانحة التي تستدعيها ، وتقدم “الطّعم” المناسب لها .
وعناصر القوة في القصص القرآني مستمدة من واقعية الموضوع وصدقه ، ودقة عرضه ، والعناية بإبراز الأحداث ذات الشأن في موضوع القصة ، دون التفات إلى الجزئيات التي يشير إليها واقع الحال (1) .
– ومن مميزات قصص القرآن نسج نظمها على أسلوب الإيجاز ليكون شبهها بالتذكير أقوى من غيره بالقصص ، مثال ذلك قوله تعالى في سورة القلم : فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ﴿26﴾ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴿27﴾ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ﴿28﴾ [القلم : 26 – 28] . فقد حكيت مقالته هذه في موقع تذكيره أصحابه بها لأن ذلك به حكايتها ولم تحك أثناء قوله إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ [القلم : 17] ، وقوله فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ﴿21﴾ أَنِ اغْدُوا عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ [القلم : 21 – 22] .
– ومن مميزاتها طيّ ما يقتضيه الكلام الوارد كقوله تعالى في سورة [يوسف : 25] : وَاسْتَبَقَا الْبَابَ فقد طرح ذكر حضور سيدها وطرقه الباب وإسراعهما إليه لفتحه ، فإسراع يوسف ليقطع عليها ما توسمه فيها المكر به لتري سيدها أنه أراد بها سوءا ، وإسراعها هي لضد ذلك لتكون البادئة بالحكاية فتقطع على يوسف ما توسمته فيه من شكاية ، فدل على ذلك ما بعده من قوله : وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ۚ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا [يوسف : 25] الآيات .
– ومنها أن القصص بثت بأسلوب بديع إذ ساقها في مظان الاتعاظ بها مع المحافظة على الغرض الأصلي الذي جاء به القرآن من تشريع وتفريع (2) .
وجاء في الموسوعة القرآنية المتخصصة (3) بعض ميزات القصة القرآنية :
– الميزة الأولى في القصص القرآني التي تميزه عن سائر القصص التركيز على الحدث والعبرة دون التفاصيل من زمان أو مكان أو أفراد .. وقد يخطئ بعض الباحثين عندما يتطلبون في القصص القرآني أن يستكمل أركان القصة بالمعنى المحدث التي هي مستمدة من الخيال ومبنية على قواعد فنون الكتابة ؛ وذلك لأنه لم يفرقوا بين القصة بمعنى الحكاية والقصة بمعنى الخبر المحدث به على وجهه ، والثاني هو المراد من القصص القرآنيّ ؛ لأن الأشخاص والزمان والمكان ليست بالضرورة أركانا للخبر المحدث به ، فقد يبهم المكان والزمان كما في قوله تعالى : وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ [يوسف : 16] ، وقد يبهم الزمان كما في قوله تعالى وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [يوسف : 99] ، وقد يبهم الشخص أو الأشخاص كما في قولـــــه تعالى : إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ [القلم : 17] . فالذي يجب وجوده في القصص القرآني هو الحدث والعبرة ، أما بقية عناصر القصة المحدثة فإنما توجد بحسب الحاجة إليها وأهميتها في القصة (الخبر) ، وإذا كان للشخصية مدخل كبير في الحدث فإنها تذكر كمريم – عليها السلام – في قصتها ، والهدهد في قصة سبأ ، وكثيرا ما تأتى الشخصية بصورة التنكير كما في قصة النملة ، لأن الحدث مبناه منطق النملة وقول سليمان عليه السلام لها . وقد يهتم بإبراز الزمان كما في قصة أهل الكهف في قوله تعالى : وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف : 25] ، وكذلك في قوله تعالى : فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ [البقرة : 259] فالزمن المذكور إنما يذكر بمقدار ما يحتاجه الحدث .
– أما الميزة الثانية للقصص القرآني فهي الواقعية الصادقة الحقة ، فليس فيه شيء من نسج الحدث والاساطير ، أو ما يكذبه الواقع أو التاريخ ، وسواء في هذا الصدق ما جاء لضرب المثل أو لم يكن كذلك ، وإن جوّز بعض علمائنا التقدير في الأول في المثل مع احتمال التحقيق ، منهم : العلاء أبو السعود العماري في قصة القرية الآمنة في سورة النحل وفي قصة الرجلين ، ولكن هذا لا يصح ، فإن مجرد القراءة بدون تأمل تكشف زيف احتمال التقدير فى القصتين . ولكنّ العلامة أبا السعود لم يكن يعلم أن خبث الطوية سيدفع بعضهم إلى إدعاء تبنى الإسلام للأساطير متبعين في ذلك خطوات عداء الإسلام .
– وثالثة هذه الميزات : تغيي القرآن في قصصه أسمى الغايات ، فلا يستهدف كغيره من القصص الترويح ولا الإيناس حتى ولو طلب بعض أصحاب النبيّ † ذلك منه ، فيردهم القرآن عن ذلك بقوله تعالى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف : 3] . وكذلك عندما قالوا له † : لولا حدثتنا . فنزل قوله تعالى : اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر : 23] . ورويت روايات أخرى في سبب نزول الآية – مع التسليم بفرض صحتها – نجد أن الصحابة إنما سألت ذلك لدفع الملال ، فدلهم – سبحانه – على أحسن القصص .
– وكذلك لا يقصد القصص القرآني سرد الأحداث التاريخية لمجرد ذكر التاريخ أو المساهمة في دراسات العمران البشرى ، بل يقصد ما هو أسمى ، وهو وضع المعيار لما يجب أن يكون وكيف تكون عاقبة من يخالفه .
– نسجه على أسلوب الإيجاز يجعله شبيها بالتذكير أقوى ، مثال ذلك قوله تعالى فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ﴿26﴾ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴿27﴾ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ﴿28﴾ [القلم : 26 – 28] ، فجاء قوله لهم موجزا ليناسب مقام التذكير .
– ومن ميزاته أيضاً التي ذكرها : طيّ ما يقتضيه الكلام الوارد في قوله تعالى : وَاسْتَبَقَا الْبَابَ [يوسف : 25] . فقد طوى حضور سيدها وطرقه للباب وإسراعهما إليه لفتحه .
– ومن ميزاته أيضا : أنه – القصص – مثبت بأسلوب بديع إذ ساقها في مظان الإيقاظ مع المحافظة على الغرض الأصلي من تشريع ، فتوفرت في ذلك عشر فوائد :
الأولي : كانت غاية علم أهل الكتاب نقل أخبار الأولين ، فلما جاء القرآن بقصصه متحديا ومعجزا لهم ؛ لأن هذه الأخبار كان لا يعلمها إلا الراسخون في العلم منهم فقال تعالى : تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَٰذَا ۖ فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود : 49] ، فنفى عن المسلمين صفة الأمية التي ادعتها اليهود ، وصفة الجهل التى ادعتها النصارى .
الثانية : تكليل هامة التشريع الإسلامي بذكر تاريخ المتشرعين وذلك من أدب الشريعة ؛ لأنه لا يتعرض لقصص السابقين إلا لذكر ثبات إيمانهم وصبرهم ، كما ذكر في قصة أهل الكهف ، ولا يذكر نسبهم ولا حسبهم .
الثالثه : فائدة ظهور المثل العليا في الفضيلة وزكاء النفوس كفائدة من التاريخ وترتب الأحداث والعلاقة بين التعمير والتخريب والشر والخير .
الرابعة : عظة المشركين بإعلام ما حدث لأسلافهم ليعودوا لربهم فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف : 176] .
الخامسة : استخدام القصص القرآني لأسلوب التوصيف والمحاورة الذى لم يعتده العرب ، فهم يعترفون بأنه أسلوب بديع ، ولكنهم لا يستطعيون الإتيان بمثله .
السادسة : توسيع علم العرب الذين كانوا يتصفون بالجهل والأمية بإطلاعهم على أحوال الأمم السابقة ، ليساعدهم ذلك في تطهير أخلاقهم وتهذيبها .
السابعة : تعويد المسلمين على سعة العالم وعظمة الأمم ، والاعتراف لكل ذي حق بحقه ؛ فإذا علمت الأمة ذلك جمعت ميزات هذه الأمم وما يلائم حياتها .
الثامنة : إنشاء همة السعى إلى سيادة العالم في نفوس المسلمين كما سعى إلى ذلك أمم سابقة .
التاسعة : معرفة أن قوة الله فوق كل قوة ، فيساعدها ذلك المسلمين على التمسك بوسيلتى البقاء : الاستعداد ، والاعتماد ، وهما وسيلتا السلامة .
العاشرة : تحصيل الفوائد التبعية مثل معرفة تاريــخ التشريعات والحضارات كعلمنا بأن الشريعة القبطية كان يسترق فها السارق من قصة يوسف في قوله تعالى مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ۚ [يوسف : 76] .
ثم أجاب عن تساؤل : لماذا لم يكتف بالقصة الواحدة في تحصيل المقصود منها ، وما فائدة التكرار في سور كثيرة ؟ . فذكر أن هذا الهاجس قد يكون تطرق من المناهج الإلحادية في نظرتها للقرآن . ولكننا نقول : إن القرآن أقرب إلى الوعظ منه إلى التأليف ، فالخطيب لو قام يعظ لو أعاد المعانى لم يعد الألفاظ ، فالقرآن تارة تأتى القصة للبرهان وتارة للتبيان فيحصل بها مقاصد الخطبة والوعظ وتحصل معه مقاصد أخرى :
أحدها : الرسوخ في الأذهان .
الثاني : إظهار البلاغة بتعدد الأساليب البديعة في التعبير عن الغرض الواحد ، فذلك وجه من وجوه الإعجاز .
الثالث : أن يسمع من تأخر إسلامه القصة التي نزلت في وقت سبق إسلامه ؛ لأن سماعه للقصة عند نزولها أوقع في نفسه .
الرابع : لم يكن المسلمون كلهم يحفظون القرآن بأكمله ، بل يحفظ البعض بعض السور ، وعليه يكون من حفظ سورة فيها القصة لم يفت الآخر الذي حفظ سورة أخرى معرفة نفس القصة ؛ لأنها مكررة في السورة التي حفظها .
الخامس : أن في كل مرة تكرر فيها القصة يذكر فيها ما لم يذكر في غيرها ، وذلك تجنبا للتطويل . ومناسبة للحالة المقصودة من سامعيها ، فتارة تساق للمؤمنين ، وتارة تساق للكافرين ، وبذلك يتفاوت الأسلوب بين الإطناب والإيجاز على حسب المقام ، فقصة موسى عليه السّلام التي بسطت في سورة طه والشعراء أوجزت في سورة الفرقان في آيتين هما : وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ﴿35﴾ فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا ﴿36﴾ [الفرقان : 35 – 36] .
ولا شك أن الفوائد التي ذكرنا بعضها أعظم من بعض ، وإن لاحظنا العموم عليها بحيث تشمل جميع القصص القرآني ، ولكن هذا لا يمنع أن يكون لكل قصة فائدتها الخاصة بها .