أدب الحرب
حرب أكتوبر ورواية فوق الأحزان.. للروائي حسن البنداري
بقلم/ د. حنان شكري
سطوة الفنون سطوة لا تقهر، فهي تملك القدرة على تحويل مسارات الشعوب، كما أنها قادرة على إيقاف الحروب أو إشعالها، واستطاع الفن بكل أنواعه أن يقاوم القهر والظلم على تاريخ الإنسانية الطويل. وكان على رأس تلك الفنون الأدب بشقيه النثري والشعري، حيث كانت له القدرة على تسجيل أقصى محن البشرية، وتصوير معاناة الإنسان، وكذلك رصد بطولاته، ومن هنا عرفت أدبيات الفن، أدب الحرب، الذي يمتد بجذور راسخة عبر التاريخ، إلى ماقبل الميلاد، ونموذج ذلك، الملحمة الشعرية اليونانية التي سجلت حرب طروادة، ملحمة ” الإلياذة والأوديسا” لليوناني ” هوميروس” . ثم تطورت أدبيات الحرب عبر تاريخها الطويل، لتسجل ويلات الحروب والاعتداءات عبر القرون الثلاثة الماضية. فسجلت الحروب الصليبية، وكتبت الأساطيرعن الملك “ريتشارد”، كما رصدت الأقلام العربية بطولات ” صلاح الدين الأيوبي”. وتخطو أدبيات الحرب في العصر الحديث خطوات كبيرة نحو فن الرواية، لتقدم العديد من روايات الحرب، عن أعظم الحروب في حياة البشرية، وهي الحرب العالمية الأولى، ومن ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر، رواية ” جون حمل سلاحه” للكاتب ” دالتون ترامبو” ، ورواية ” وداعا أيها السلاح” للكاتب الأمريكي” أرنست همنجواي”، والتي صدرت في مايو 1929. وأيضا رواية” امرأة صالحة” و” التوأمتان” للكاتبة الأمريكية” دانيال ستيل” .
فتاريخ البشرية محمل بأوزار الحرب، التي حاول الإبداع الأدبي أن يرصدها ويسجلها ويُنفر منها، وأدبيات الحرب تثمر عن بيان ويلاتها وما تتعرض له البشرية من تدمير على كل المستويات الإنسانية والدولية، كما أنها تبرز حركات تحرير الشعوب وتضحياتها لتحقيق الكرامة والحفاظ على الأرض والعرض.
وامتدادا لهذا الإبداع الإنساني، برزت الرواية العربية المصرية لتعبر عن أسمى حرب في تاريخ مصر الحديث، حرب أكتوبر 73، فسجلت بطولات تلك الحرب .. حرب الكرامة، كما رصدت معاناة الجيش المصري وتضحياته من أجل تحرير الأرض من العدو الصهيوني الرابض في الضفة الشرقية للقناة خلف خط بارليف، معلنا أنه الجيش الذي لا يقهر.
ومن أمثلة تلك الروايات: ” أكتوبر حبي” للكاتب إبراهيم الخطيب، وهي من أوائل ما كتب عن حرب أكتوبر، فقد صدرت عام 74، ورواية ” الرفاعي” للكاتب جمال الغيطاني، وهي تتناول بطولات العميد أركان حرب إبراهيم الرفاعي. ورواية ” الحرب في بر مصر” للروائي يوسف القعيد، ورواية ” دوي الصمت” للكاتب علاء مصطفى، ورواية ” زهر الخريف” لعمار حسن، ورواية ” موسم العنف الجميل” للروائي فؤاد قنديل.
وبعض هذه الأعمال دخلت إلى دائرة الدراما، ومؤخرا ظهر العمل الدرامي ” الممر” للكاتب شريف عرفة.
ومن أبرز الكتّاب الذين سطّروا لحرب أكتوبر وما سبقها من حروب الاستنزاف، الكاتب الروائي ” حسن البنداري” ؛ حيث أخضع قلمه للتعبير الدقيق والمفصل والواقعي عن تلك الحروب، فقد كان مجندا منذ 1968
ورصد بقلمه حتى أنفاس الجنود في الكتيبة، وفي كثيرمن أعمال البنداري تماس بين الأحداث المجتمعية والسياسية والوطنية وحرب أكتوبر. ورواية ” فوق الأحزان” تعد نموذجا لأدب الحرب بامتياز، فقد وظّف الكاتب كل فضاءات العمل الروائي من زمان ومكان وحدث وشخصية، لخدمة قضيته، قضية تحرير وطن مسلوب، فعرض الزمان والمكان بواقعية رصدت حتى التواريخ الأصلية للأحداث ، واهتم بوصف الأماكن التي تدور فيها الأحداث وصفا تفصيليا دقيقا للغاية ، كما اهتم بتفاصيل الزمان كذلك بدقة بالغة، ويبدو أن الكاتب أبى على نفسه أن يغير شيئا من الأزمنة والأمكنة، التي عايشها فعليا عندما كان مجندا في الجيش المصري. واتخذ من تلك الفضاءات وسيلة حجاجية لإقناع المتلقي، والتأثير عليه، فهو ينقل تفاصيل الزمان والمكان ويربطها بالتوجّه الحركي للشخصيات، بصورة واقعية تجعل المتلقي وكأنه مشارك في الأحداث، فهو داخلها وليس خارجها، بما يحمله الكاتب نفسه في داخله من مشاعر لهذا المكان والزمان. فالأماكن عنده تحمل طاقات شعورية وطنية تحررية مؤثرة في ذاته، يحاول بأسلوبه السردي أن يصل بتلك الدفقات الشعورية الذاتية إلى قلب وعقل المتلقي، حيث يتوحد القاريء مع الخطاب السرد ليجد نفسه في محطة ” نفيشه ” مستقلا القطار الحربي المحمل بمئات الجنود، ويقع أسير سطوة الزمان والمكان، ويتشارك الحركة الديناميكية مع الأشخاص، يقول الكاتب: ” محطة نفيشة .. تغطي منشآتها المتجاورة صفرة شمس يونيو 68 ” فالأماكن واقعية وليست في الرواية كلها أماكن خيالية. نماذج ذلك تتضح من السطور الأولى للرواية:
- ” محطة نفيشة أخيرا ” صـ 13.
- ” في نهاية الجسر تعانقت نظراتي مع لافتة مغبشة مكتوب فيها : قرية أبو سلطان ” صــ 18.
- ” منطقة التجنيد بالماكس ” صـ 19.
- ” يتخذ مواقع في منطقة الحسنة في وسط سيناء ” صـ 56.
- ” وصلنا إلى الضفة الشرقية “ صـ 82.
” عدت إلى موقعي بسرعة لأراقب من الهضبة ما يجري في الظلام على الجانب الشرقي” صـ 86.
- من أهم محاور الرواية: ما تعرض له الجنود المصريون عقب نكسة 67، يقول:” وقال عبد التواب بحسرة: مدافع بلا ذخيرة .. وأفراد الأطقم كانوا نائمين.
- وقال شعبان: كنا نحلم بالعودة إلى ديارنا بعد مضي سنة من عملية اليمن.
- وقال مسعد: داهمتنا الطائرات المغيرة فدمرت الجنود والمعدات قبل أي اشتباك.
- عقب عبد التواب: تهنا في الصحراء.. أنا مشيت عشرين يوما في الصحراء بلا سلاح.
- فقال مسعد الرفاعي بينما ترقرقت في عينيه الدموع: رأيت طابورا من الجنود يطلقون النار على أسرى أوثقوا أيديهم وأرجلهم.
- وقال عبد التواب وهوينشج بصوت أثار في نفسي منابع الرعب وفجّر بها تيارا من الغضب: رأيت دبابات تدوس عشرات الأسرى الموثوقين بالحبال.
- وقال شعبان بصوت متهدج: حفروا حفرة كبيرة ورموا فيها الجثث وأهالوا فوقها الرمال ” صــ56،57،58
ومن محاور الرواية كذلك، إبراز فكرة الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين، في تحقيق نصر أكتوبر: يقول في سطور الرواية: ” وجدتني وحدي أدير بصري في أرجاء المكان القبو، تأملت الجدارين الأيمن والأيسر، تأملت تجاور صورة العذراء والسيد المسيح؛ ولوحة “جودة” ( إن ينصركم الله فلا غالب لكم ) فانشرح صدري وتفاءلت؛ وأيقنت أن هذا التجاور الحميم سوف يكون مددا معنويا لنا في مستقبل الأيام ” صــ 50.
مفردات الحرب في الرواية: اعتمدت الرواية على مفردات حربية كثيرة، منها على سبيل المثال:
- أنتم من الآن ضمن ك 500 ” وذلك حين توزيع الجنود على المهام . صـ 15.
- ” عقب مغادرة الضابط المكان حملنا المخالي ” صـ 25.
- ” انصرفنا بعد تناول العشاء إلى الأدبخانة ” صـ 40.
- ” الحديقة تضم مواقع مدفعين مضادة للطائرات والدبابات ” صـ 41.
- ” أدى التحية العسكرية للرائد ” صـ 41.
- ” ننتظر الهجوم الجوي بأطقم مدافع الـ م / ط ” صـ 42.
- ” بعد قليل جاء جودة معتمرا الخوذة “ صـ 49 .
- ” وجدتني اعتمر الخوذة وأقف خلف المدفع ” صـ 90.
- ” هرعت إلى المدفع … بينما كانت الطائرة سكاي هوك الفضية ترتفع ” صـ 70.
وقد حفلت الرواية بالعديد من المحاور والمسارات التي تعد أساسا لأدب الحرب، آثرت منها ما تقدم بما يناسب مساحة المقال. أدام الله لمصر النصر، وحفظ جيشها وشعبها.