تقنيات الاختزان في القصة الشاعرة
د. حسين مناور
ناقد أدبي – الأردن
يشكّلُ العنوان وجهًا آخر من أوجه الشكل والمضمون؛ فالتقنيات هي الوسائل والطرائق والأدوات بشتى أنواعها، وأما الاختزان؛ فنقصدُ به ما يغيب في النص أو يسكت عنه كاتب النص. والأدب بعميمهِ يتجاذبه قطبان؛ الوسيلة والوظيفة، وقد يتداخلان حد الانصهار الإبداعي. حتى أن النقد الحديث لا يُفرّق بين الإمتاع والفائدة. ويتعثّر على الناقد أن يضع قانوناً استباقيًّا صارمًا لما يسمونه سَنام الإبداع، فالأمر يعتمد على الأديب الفذّ المُلهَم، فهو أشبهُ بالحصان، والنّقدة هم العَرَبة، فسهيل في النجوم يختلف عنها ولا يجري مجراها.
هذا الاستهلال يفتحُ علينا بابًا كبيرًا، أو قل تساؤلاً عريضًا؛ هل الأديب المُبدع هو الذي يَعْلفُنا بالمضمون على نحوٍ لذيذ الشكل، أم هو الذي يقدّم لنا طبقاً شهيّاً؛ ليغدوَ نوراً في العين، أو دماً في القلب، أو حباً للوطن، أو كُرهاً لعدو؟ الأمر الذي يَرُدّنا –لا محالة– إلى الولائم الأدبية اللذيذة، يردنا إلى قدرة المُبدع التأثيريّة على خلق الاتجاهات وزرع القيم. فليس بالعَلَف وحدهُ نحيا! إنما بالمضمون الشهيّ المؤثّر، ولا نبالغ اذا قلنا أن التأثير ابن شرعي لهذا التزاوج بين الجمال والفائدة. في منطقة حسّاسة كهذه، لا يمكننا أن نُغفل بُوصْلة نقديّة من تراثنا العريق، تمثّلت في صوتين؛ الأول من أعرابيّ مجهول، والثاني من الجاحظ موسوعة عَصره. فحين سُئل الأعرابي عن البلاغة، قال: البلاغةُ عندنا هي تجويع اللفظ وتسمين المعنى، وأمّا الجاحظ فقد رأى أنّ المعاني متاحة للعامة، وأن الإبداع يكمُن في انتقاء الألفاظ وتصريفها. ومع مراعاة العمر الزمني للمصطلحات فإن قوليهما إشارة واضحة إلى المضمون والشكل، إلى الفائدة والجمال.
فهل ظلّ المضمون حبيسًا في ثنائية الفضيلة والرذيلة، أم اتّسع أكثر؟ وهل المتعة ظلّت بحدود إرضاء الأذن، أم أن ثمّة أشياء أخرى ينبغي إرضاؤها؟ وقبل الحَوْم حول هذين التساؤلين، علينا أن نعترف بأن الأدب إما أن يستبق الزمان ويردُم المسافة بين الواقع المَعيش والواقع المرجوّ، أو يُباري الزمن ويغدو سجلّا لحركته، أو راكدا يرسِف في قيود الماضي. و تلكم المستويات تقتضيها جدليّات عديدة؛ التطور والتّخلّف، الآصالة والمعاصرة، التّبعية والاستقلال، العولمة والقطريّة … على صدى هذه الإيقاعات المتباينة، يمكننا أن نستجلِي أبعاد المضامين واللّذائذ. لم يعد المضمون وعظيّا، بل اشتجَر وتنوّع، كامتداده إلى حاجات النّفْس البشريّة، بالتوازن في زمن الاختلال، وسدّ الثغرات في زمن الفراغ، وترسيخ القيم الوطنية، وتوضيح مفهوم الحرّية، والدفع الى تخصيب التساؤل والحثّ على تطوير المنهج العقلي، وامتصاص المصاعب وإعادة إنتاجها سماداً للزرع. كما أن اللّذائذ لم تعد إرضاءً للمسامع، فهناك حقول ألذّ ؛ مثل الإشارة الاستدلالية، البحث عن الدفائن والمقاصِد، طي الغزير بالقليل، الكلمة التي لا تقولُ المعنى بل تُفجّره، ممارسة الإنارة التي تُعفينا من لعنة الظلام.
وها نحن على مسافة اليد للفم من القصّة الشّاعرة ، والآنية الأدبية الضّئيلة السطور، ذات المدخور الهائل، التي اندغم بها المرجوّ مع زينته الساحرة؛ لترقى إلى وظيفة التأثير والتحويل. فما طرائق التخزين الإبداعية التي سلكها كتّاب القصّة الشّاعرة؟ في سبيلي للإجابة، سأذهب مذهبا تطبيقيّا، وسأعرض ثلاثة نصوص من القصة الشاعرة، واتهجّى طرائقها بالتّخزين، ثم أنظر في مرفوعِها التأثيري التحويلي.
*النص الأول لمبتكر القصة الشاعرة الأديب محمد الشحات محمد بعنوان “هَوَس”:
“صلّت الفجر وراحت حُجرة النّوم،
استقلّت أوّل الأحلام حتى انفجر الشاحن بالتكييف، غابت،
هزّت الصّفعة أرجاء بنات الحي ..،
سيقان العمارات بها التفّت،
مع الأشلاء صاحت:
أين زوجي؟
رفعَ الجلسة يحيى الكهربائّي!”
ضُربت سرديّةُ الشحات الشاعرة على موضوعٍ بؤرتُه الكارثة، احتفرها الكاتب، ودَلَقَ بها قِيمًا تتقاطع أو تتوازى على نحوٍ تشكيلي؛ ليهبَ البؤرة سلطةً مغناطيسية، تنخطف إليها الأضداد والنظائر، كالقيم الدينية، والانهيارات، والأشلاء، والفقْد وقرار الكهربائي، كما أن الكاتب انْتهبَ من الأبعاد النفسية ما يتناسب مع الأبعاد الاجتماعية؛ وذلك في سبيله لتحميض البؤرة الكارثية، أو قل الحفرة الكارثية، وسواء عليه الحفرة الفنية داخل النص أو الحفرة خارج النص. من صلاة الفجر وحتى قرار الكهربائي؛ أحداثٌ كثيرة وخطيرة وماحقة، اختزنها المبدع “الشحات” ببضعة أسطر، من دون اعتساف، واستعاض عن المحذوف كله بطائفة من الآليات الإبداعية. كيف؟ فالعنوان (هَوَس) في بعده النفسي بلا ضِفاف، وآهِلٌ بالتأويل، ومؤهّل – على نحو استباقي – ليملأ أي فراغ مُحتمل، أو قل يتّسع للحوادث والزلازل والمفاجآت. وفي السياقات التركيبية مثل (صلّت الفجر، وراحت حُجرة النوم) حذف الكاتب حروف الجر؛ ليتجنب الحشو، على حين استخدم الفعل الماضي (صلّت، راحت، استقلّت، هزّت، غابت، التفّت، صاحت، رفعَ) كوسيلة سرديّة استرجاعية، لها قدرة مُذهلة على قبض الزمن الفائت. وفي الفواصل يجدد “محمد الشحات محمد” كلّ مٌبعثر، وفراغات النص سراديب ومستودعات ملأى بالأحداث، وعلامات الترقيم بعامة تدّخر مساحات شعورية شاسعة.
ومن طرائقه على امتصاص الغزير الوافر، أن ينسبَ الفعل إلى غير فاعله (استقلّت أول الأحلام). على أنه يُفخّخ النص بالألفاظ التفجيريّة؛ ليضمن التهويل السرديّ في ذهن المتلقي؛ مثل (أرجاء بنات الحي، يحيى الكهربائي)، هذا الاسم الذي يتناقض مع المُسمى جاء خاتمةً صاعقة، احتقبت ألف رنين وألف صدى. ولننظر إلى التشعّب الدلالي والإحالي لبعض الألفاظ، (فالهَوَس) يفضي الى الجنون والعبث وانعدام الرقابة الذاتيّة والانفلات. (صلاة الفجر) تفضي إلى القيم الإسلامية التي تملأ الزمان والمكان. وأورد “الشحات” ألفاظا إلكترونية ذات دلالة مزدوجة، فيها النعمة والنقمة (شاحن وتكييف). (التفّت سيقان العمارات) تُحيل على الموت بأبشع صوره، وكلمة (أشلاء) ألصق وأنطق بكوارث البشرية، ( رفعَ الجلسة) تُحيل على التسلّط والتّحكم.
والآن، مازالت الأسئلة تطاردنا؛ ما علاقة الشكل بالمحتوى؟ وكيف يرقى الإمتاع والفائدة الى سطوة التأثير؟ ما هو الطبق المفيد اللذيذ الذي يغدو نورًا في العين أو دفقا بالقلب أو حبا للوطن أو كرها للعدو؟ يمكننا أن نستلّ الجواب من القصة الشاعرة (هَوَس) بمستوياتها الأسلوبية ومحتوياتها؛ فالقليل استوعب الكثير، والكثير تجمهر بالقليل، تعاونت الأشباه وتكاملت الأضداد، ونهض الرمز بحمل المرموز إليه، واستُحضر المشار إليه بالإيماء، وكشف الدّال تضاريس المدلول كلها. ويمكن القول أن القصة الشاعرة ضفيرة من المحتوى والشكل والهدف تُمارس الإنارة ولا تثرثرها، وكاتب القصة الشاعرة كيماوي لُغويّ، ينسف أحيانا نظام المعجم الأليف، لتَتغوّل الألفاظ على يديه. فقد يسكب لَفظة على أخرى، فيكسح الهضاب، أو يمحق السهل، ليغدو وعرًا.
* النص الثاني للدكتورة ربيحة الرّفاعي، بعنوان ” أوروبا كُورَنت”:
“ركعت بباب الموت .. ترقبُ حتفها في زحمة الجثثْ المقيمة في سراديب المشافي، استسلمت بمرارة .. لمجونه المزعوم .. .! لم تُصغي لإيزيس، استفاقت بأسها من غفلةِ، وأتت عليه، تزيح كورونا بغصّةِ ربّةٍ، وتُقيّمها، فبكى التفرنج وانحنى”
زلزال مُعاصر، هزّ الكون وتحدّى القوي قبل الضعيف، عجزت عن مواجهته الدول العظمى، رتَعَ الفايروس وفتك، وكل المُنجزات الحضارية غدت مكتوفة الأيدي وحتى أوروبا حنَت الجِبَاه، سرديّة مموسقة شاسعة، وزادها اتساعاً أن حجبت ربيحة الرفاعي على وجه التخزين قضيّةً لا تقلّ سَعة، حجبت صرخة المظلوم المُزمنة بوجه الظالم، كأنها تقول للظالم : يوم لك ويوم عليك، وهاتان يملآن الزمان، والمكان، خَزلتْهما الكاتبة في بضعة سطور، واعتضدت بوسائلها الإبداعية وعلى رأسها الإضمار والانعتاق من ملابسات المكان والزمان. جاء العنوان (كُورَنت) تصميما إبداعياً احترافيًّا، استودعت به طاقات الدهشة، والتحولات والانقلابات المفاجئة، والخضوع والانحناء والخَوَر والكبرياء المزعوم والهزيمة.
وظّفت الكاتبة مُعجمًا لفظيًّا ذا قدرة دلالية واستيعابية، لتمتصَ المَركومَ الحدثيّ الذي بثّ الرعب في أرجاء الأرض: (كورنت، حتف، جثث، سراديب المشافي، استسلمت، إزيس، غفلة، غصّة، انحناء). ومن روائع مصطلحاتها (التفرنج)، ورصّت به من الوقائع ما نَفَشَتْهُ الروايات والقصص، استرجعت به، تاريخا سياسياً، تماماً كما استرجعت تاريخاً حضارياً بإيزيس، واللافت عند الرّفاعي –مثل مُعظم كتاب القصة الشاعرة- أنها تدسّ التعابير المراوغة لاصطياد المعاني والدّلالات المزدوجة، كما في (المجون المزعوم) إشارة إالى اللغط السياسي في جائحة الكورونا، ولم تُغفِل الشاعرة سرداً صامتاً عَبر علامات الترقيم، ومن خلال أدواتها سيطرت ربيحة الرفاعي سيطرة غير محدودة على الأحداث والمسافات، وكأن القصة الشاعرة غرفة تحكم، أو نافذة صغيرة تطل على الشاسع المترامي، على نحوٍ جمعت فيه الكاتبة من الأسلوب الجميل والمحتوى الحَنيْذ.
* القصة الشاعرة الثالثة للكاتب معتز الراوي، بعنوان “ميكروسكوب”:
“تراقب حُسنها من ثقب ميكروسكوب حارسها المكلّف، باحتباس حرارة الصوت الخفيض بسجنها .. شكوى إلى ديوان زوسر تستعيد اللهو في جثث الطقوس على المنابر ..، قاد رمسيس التّحقّق ..، عند أبواب الخليج توضّأ الجسر القديم، تقطّع التكبير في تشويش رادار التّوقّف …، كوندليزا تستجمّ بخلوة في المعبد الرقميّ …، صلّى الأزرق النّمام في أديانه الأولى بآيات الغُزاة …، الطائرات تجوب لاستكشاف أفعى في ذراع توحّد الغايات …، DNA أعاد إبادة الأطفال للجدّ الغريق بدعوة صدقت لموسى ..، تبدأ الصلوات شق قناتها الأخرى … يعود بكذبة شاعت.”
نحن أمام قصة شاعرة أشبه بحقيبة يدوية، فيها من الحمولة ما لا تستطيعه المُطوّلات السردّية؛ التسلّط، العمالة، المذابح، العبادة، والحضارة السياسية، التاريخ، تقنيات الحرب والسلام، التراث الديني، التآمر، التدليس، ضفّرها الراوي على إيقاعات متنوعة ترضي الأذن، وفي محاولة منه لاستبعاد الحشو، فقد خالف النظام التركيبي للغة إذْ قام بتغزيز الإضافات في الجملة الواحدة (من ثقب ميكرو سكوب حارسها) و(في تشويش رادار التدفّق)، (في ذراع توحّد الغابات) … وهكذا دواليك. تُرى كيف أَذعَنَت الوقائع والحوادث السرديّة – ما نفر منها وما أطاع – إمْرة الراوي؟ وكيف دَفَقها في سيلٍ سرديّ، تتناسل فيها الأحداث والوقائع؟ مثل (احتباس حرارة الصوت، جثث الطقوس على المنابر، توضأ الجسر، المعبد الرقمي، آيات الغزاة). الراوي في القصة الشاعرة، يطيعه العاصي القريب ويلبّيه الناشز البعيد، إنْ مرّ المرموز إليه بحجمه الكبير من ثقب الرمز الضّيق: (ميكرو سكوب، كوندليزا، احتباس، رمسيس، رادار، أفعى، DNA، الجدّ الغريق، قناة أخرى، موسى)، كما أن الراوي ينتظر من المتلقي ما لم يكتبه، أو يختصر مالم يكشفه. وأخيرًا ما أجمل وما أنفع الكتف الصغير حين يقتدر على الأحمال الثّقيلة ..
تلكم هي القصة الشاعرة …