حقائق بين يدي الرد على الشبهات
بقلم/ د. شعبان عطية
أستاذ التفسير جامعة الأزهر
تكلمنا في المرة السابقة أن الصراع بين الحق والباطل صراع قديم قدم البشرية ، وأن الباطل قد سلك مسالك متعددة في محاولاته القضاء على الحق ، وسلك مسالك متعددة ، من صراع صريح ، ظاهر ، مباشر إلى صراع خفي يسلك طرقا ماكرة ، تلبس أقنعة جميلة براقة ، جبنا منهم من ناحية ، ورغبة منهم في الوصول إلى مقصدهم بدون تكلفة، واعتقادا منهم أن المواجهة الظاهرة لم تعد كفيلة بتحقيق ما يريدون من العالم الإسلامي ، وكان من هذه الوسائل التي سلكوا ما يسمى بأسلوب التشكيك في القرآن وفيمن أنزل عليه القرآن ، معتمدين على تلك الأقاويل التي كان يرددها أسلافهم ، أو على ما قد يطرح علماء الإسلام من مسائل حول الذكر الحكيم مع الجواب عنها ، فكان من خبث هؤلاء أنهم يأخذون السؤال مع محاولة التضخيم من شأنه مع إهمال الجواب عمدا ومكرا على ما سيتضح لنا من المقالات الآتية ، والآن وقبل أن نذكر ما حاولوا به التشويش على المسلمين مع الجواب عنه ، نحب أن نذكر عدة حقائق بين يدي الموضوع
أولها : بالنظر فيما قال هؤلاء يتضح أنهم لا علم لهم بما قد طعنوا فيه من التنزيل الحكيم ،وإنما حديثهم يبدو أنه عن هوى فى النفس ،وزيغ في القلب، أعماهم عن معرفة الصواب ،بحيث جعلهم يرون الخطأ صوابا ،والصواب خطأ ،كما سيتضح لك من خلال الرد على شبههم .
ثانيها : لو أن هؤلاء بدل أن يشغلوا أنفسهم بالبحث عن مثالب في الذكر الحكيم، شغلوا أنفسهم بما يسمى عندهم الكتاب المقدس وما فيه من تحريفات آبائهم الأولين ،وبيان وجه الحق في ذلك ،لكان فى ذلك منقبة لهم ،لامثيل لها ،فقد يتوصل بسبب ذلك أناس إلى معرفة الحقيقة التي نهايتها إما جنة أو نار.
الأمر إذن ليس خسارة مادية يمكن أن تعوض ،ولا مرضا جسديا يمكن أن يداوى ،ولا ألما نفسيا يمكن أن يعالج ،وإنما الأمر نعيم لا ينفد ،أو عذاب لا ينتهي ،فهذه النهاية ولا شك تتطلب منا ومنهم أن نكون على درجة من الحيدة والإنصاف، لأن الخداع هنا والكذب لا يفيدان ،وإنما نهايتهما الندم ولات ساعة مندم .
أقول: لو أنهم نظروا فيما يعرف بالكتاب المقدس لوجدوا فيه ذكرا لأمور يشيب لها الوليد ،مثلا تجد عندهم النبي الذي يشرب الخمر فيزني بابنتيه، كذبا وزورا على نبي الله لوط عليه السلام، والنبي الذي يتآمر على جاره فيلحقه بالجيش إرادة أن يقتل ليتزوج بامرأته كذبا وزورا على نبى الله داوود عليه السلام إلى غير ذلك من أمور نحن الآن في حل من ذكرها لسبب أو لآخر . أليس من الواجب عليهم أن يشغلوا أنفسهم بالبحث عن مدى الصدق والكذب في مثل هذه الأمور وغيرها الكثير والكثير بدل أن يشغلوها بالطعن في الذكر الحكيم .
ثالثها : أن كثيرا من هؤلاء ليسوا من العرب الخلص ،وليسوا من أرباب اللغة العربية ،حتى لو قلنا إنهم كذلك ،فقد مضى عصر الاحتجاج بمن يعتد بقوله في تصويب أو تخطئة ما جاء على لسان العرب الأقدمين ؛ لكنك تعجب ويبلغ بك العجب مداه عندما تجد دخيلا على لغة قوم ينصب من نفسه حكما على لغتهم فيخطأ ويصوب !!!!
رابعها : أن هذه الآيات الكريمة قد قرئت على مسامع العرب من أسلم منهم ومن لم يسلم ،فلم ينكروا ولم يعترضوا ، علما بأن من هؤلاء الذين لم يسلموا من كان اشد عداوة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء بكثير ،يدرك ذلك من كان له أدنى إلمام بالسيرة والتاريخ ،فلماذا لم ينكروا … ؟!!!
خامسها: من المعلوم أن العصر الذي نزل فيه القرآن الكريم كان أزهى عصور اللغة العربية بحيث كانت اللغة في أوج تألقها فلو كان الذي ذكره هؤلاء أخطاء من جهة اللغة العربية لأقام هؤلاء الذين أجرموا فى عهده صلى الله عليه وسلم الدنيا وما أقعدوها ،وخاصة أعداء الرسول صلى الله عليه وسام من اليهود والمنافقين والمشركين ،أو على الأقل لوثبت أن هذه أخطاء لارتاب بعض المسلمين في شأن القرآن الكريم ، ولظهر ذلك في ثوب أسئلة توجه إلي الرسول صلى الله عليه وسلم فلما لم يثبت هذا ولا ذاك دل على تسليم قادة اللغة وسادتها من الأعداء والأصدقاء على صحة ما جاء به الذكر الحكيم ،وهنا نتساءل هل هؤلاء أعلم بلغة العرب منهم حتى يكتشفوا ما لم يكتشفه من سبق من بنى جلدتهم؟َ!! وهل هؤلاء المعاصرون قولهم حجة على لغة العرب؟!!!
سادسها : لقد أنزل الله القرآن الكريم على أعلى درجات البلاغة ،وأرقى آيات الفصاحة، وأسمى درجات البيان ،مما أعجز أرباب اللغة وأساطين البيان عن محاكاته والإتيان بمثله ،قال تعالي (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القرآن لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)) الإسراء آية
وقال تعالى(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)) البقرة آيه23
حتى قال قائلهم أعنى الوليد بن المغيرة والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو ولا يعلى عليه فهذا هو الوليد بن المغيرة وهو من هو في لغة العرب وكذا في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهل هؤلاء أعلم منه بلغة العرب وأدرى؟ أم هو الحقد الدفين، والحسد الأعمى !! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أقول ومع تحدى القرآن لهؤلاء العرب ووجود الدافع عندهم للمعارضة والنقض والتشنيع وانتفاء المانع ببلوغهم ذروة الفصاحة والبيان لم ينقل عن أحد منهم أنه طعن في لغة القرآن الكريم، ألم يكن الطعن في لغة القرآن الكريم أيسر عليهم من أن يخوضوا حروبا طاحنة ضده عليه السلام طارت فيها رؤس وسالت فيها دماء ويتم بها أطفال ورملت نساء وفقد معظمهم أعز أحبابه وأصدقائه فلما لم يفعلوا ثبت بذلك عجزهم عن معارضته وأيضا تسليمهم بسلامة لغته وبالتالي لايبقى لمقلد في لغة العرب أدنى متمسك في القول بوجود لحن فيه .
سابعها : ثبت بالدليل القاطع تفوق الرسول صلى الله عليه وسلم في الإلمام بلغة العرب حتى قال هو عن نفسه ” ” أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، ” ( )
وأيضا فقد حباه الله تعالى بأصحاب شهد لهم القاصي والداني بالتبحر في لغة العرب فمثلا عندما تقرأ في مسائل نافع بن الأزرق لابن عباس كما جاء في الإتقان للسيوطي وكيف أن ابن عباس كان يستدل على ما يقول بشاهد من لغة العرب تقف على مدى تمكنه من لغة قومه وعلى هذا النحو كان أكثر الصحابة رضوان الله عليهم أقول : كيف يخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مثل هذه الأخطاء لو كانت وهو الذي يعلم أن القرآن الكريم هو معجزته التي تحدى بها الإنس والجن ويعلم كذلك أن أعداءه لا أشد منهم تربصا به وبدعوته فكيف يترك لهم بعد كل هذاخطأ به تقيم العرب الحجة عليه ؟
تاسعها : ثبت أيضا أن لغة العرب لغة واسعة قال الشافعي في الرسالة: لا يحيط باللغة إلا نبي ( )؛ نظرا لسعة رقعة الجزيرة العربية وبالتالي تعددت اللهجات ، وكثرت الأساليب وبالتالي فإن ما ذكره النحويون قد لا يكون مستوعبا لكل ما يقعد لهذه اللهجات والأساليب فالخطأ إذن ليس في أن القرآن الكريم قد استخدم أسلوبا لم يذكره النحويون وإنما العيب يكمن في أنهم لم يهتدوا إليه ، كيف وكل ما جاء في القرآن الكريم من أساليب لا سيما هذه التي اعتبرها هؤلاء لحنا قد ذكر النحويون أنها لغة سليمة صحيحة وردت عن بعض قبائل العرب والتي نزل القرآن بلغتهم . كما سيتضح من خلال هذه الدراسة إن شاء الله تعالى وبعد فقد حان الوقت لعرض هذه الشبهات مع الرد عليها وبالله التوفيق .