القصة الشاعرة.. مصفوفة الأحلام والاستشرافات الحية
د. السيد رشاد برى
شاعر وناقد وباحث
رئيس المؤتمر الخامس للقصة الشاعرة
لم يعد فن”القصةالشاعرة” بعد هذه النجاحات المتتالية والحضور الراسخ فى المشهد الإبداعى العربى يحتاج إلى من يدافع عنه، فالقصة الشاعرة إبداعا وتنظيرا وبحثا ونقدا وتطويرا باتت بذاتها، قادرة تماما على هذه المهمة، حتى إنها من هذه الزاوية بالذات لم تعد فنا إبداعيا قابلا للإحالة إلى لافتة المستقبل، بل هى فن حال وحاضر ومؤثر بكل ماتعنيه الكلمة من معان ودلالات وعلاقات وتأثيرات وتداعيات، لكن – فى تصورى حتى إن لم تعد القصة الشاعرة فن المستقبل- فهى أكثر فنون الكتابة الإبداعية ارتباطا ، ليس فقط بالإنسان المعاصر وتحدياته الكبيرة والهائلة، لكن أيضا بالمستقبل القريب والقريب جدا لهذا الإنسان بكل مايحيط به من تحديات وتداعيات.
هذا الارتباط الذى تصنعه طبيعة هذا الفن العربى المبتكر، من خلال حرص نصوصه على هذا التفاعل شديد الأهمية ببن المعطيات الإبداعية والجمالية والدلالية والفكرية وبين ضرورة الوعى بتداعيات المرحلة الفارقة التى تمر بها ليس فقط مجتمعاتنا العربية بل الإنسانية كلها ، هذه الشراكة الإبداعية الذكية من ناحية والتى تمثل ما يشبه مشتركا رئيويا عاما فى نصوص القصة الشاعرة سواء التى تكتب فى مصر أم الأردن أم الخليج أم الشام والعراق و السودان والمغرب العربى، وأرى أن هذا الفن واحدا من المعادلات الموضوعية القادرة بصورة أو أخرى، على صنع بعض التوازان مع معطيات وتداعيات واقع الذكاء الصناعى الذى يسيطر، أو يكاد على مجتمعاتنا العربية حتى باعتبارها حلقة – ربما الأضعف أو الأكثر هشاشة مع الأسف الآن- من دائرةالمجتمع الإنسانى كله الذى يتعرض للأمر عينه بدرجات وتداعيات مختلفة ومتفاوته حسب طبيعة ومكونات وقدرة وقوة كل منها داخل فسيفساء المجتمعات البشرية بشرقها وغربها وشمالها وجنوبها.. وتكفى الإشارة هنا إلى أن نص القصة الشاعرة الإبداعى هو أحد أهم النصوص القادرة، مثلا، على أن تخلق شراكة تفاعلية حقيقية بين المتلقى والمبدع والنص الإبداعى، هذا المثلث الذى كان من النادر اكتماله فى وسائط أدبية أخرى، أيضا هناك القدرة على استعمال وتوظيف الفضاء الرقمى بكل إمكاناته وذكاءاته ومعطياته فى تشكيل بنية وجوهر الفضاء الإبداعى لنص القصة الشاعرة بشتى أشكاله.
من هنا يمكن مثلا عبر هذا النص الإبداعى وبسهولة تامة قراءة أدق وأخفى معطيات الخرائط الذهنية والانفعالية البشرية، ممثلة فى أبطال ورموز هذه النصوص،بل تخيل الأشياء،زوتصور المساحات والموجودات والأبعاد وغيرها….. بما يمكن متلقى هذا الفضاء (الإبداعى الذكى) من إدراك الاتجاهات، والمحددات، والتعرف على المرجعيات وليس فقط المراجع ، ومن ثم تكوين صورة وعشرات الصورالكلية للراهن و المستقبل معا عبرقراءة، وإعادة قراءة وتصنيف، وإعادة تصنيف، وتوصيف وإعادة توصيف، وفهم وإعادة فهم ، وتشكيل وإعادة تشكيل التفاصيل حتى فى صورتها الدقيقة والغائمة، وليس فقط، المتلقين هم من يحتاجون إلى هذا المزيج السحرى بين الفضاء الرقمى وهذا الإبداعى من خلال نصوص القصة الشاعرة بل إن الدارسين المتخصصين والنقاد والباحثين وغيرهم..
هم أيضا يحتاجون لهذا المزيج لكى يساعدهم- فى الحد الأدنى – على فهم الفضاءات الجديدة، ومن ثم القدرة على التعامل معها بإيجابية، وهو ما يتطلب بدوره حساسية خاصة فى فهم والتعاطى مع عدة دوال متقاطعة ومتشابكة تصنعها خطوط ومتواليات اللفظ والمعنى والدافع والدلالة والخط والشكل والطبيعة والمجال، والمساحة والعلاقات التي توجد بين هذه العناصر، مع القدرة على التصوير مابعد البصرى، وتحويل حتى الدوافع الخفية والأفكار المحلقة إلى مكونات بصرية أو مكانية، فى مصفوفة قادرة على صنع بيئة أو مناخ مناسب تتيح لهذا الإنسان المعاصر أن يوجه نفسه على نحو مناسب عبر هذه المصفوفة .. مصفوفة الأحلام والاستنباطات والاستشرافات الحية.
إن ما سبق يجعلنا نتوقف أمام ظاهرتين مختلفتين: الأولى ظاهرة تشكل جوهر المكون الثقافى لأى مجتمع وهو الإبداع متمثلا فى ابتكار هذا الفن الأدبى “القصة الشاعرة”، والإبداع يمثل ظاهرة قديمة جداً وصاحبت تطور البشرية ابتداء من الرسم والنقش على الكهوف وقراءة الأثر والرموز والتدوين وكتابة الشعر والملاحم والأساطير وحتى القصة الشاعرة وما بعدها.
أما الظاهرة الأخرى فهى: التكنولوجيا الرقمية باعتبارها أبرز تداعيات ومعطيات العولمة وأكثرها تأثيراعلى الإنسان المعاصر، وهى ظاهرة حديثة جداً، تعبر عما وصل إليه المنجز العلمى فى مجال الذكاء الصناعى ووسائطه وتطبيقاته العملية، ولاشك أن هذه «الوسائط» استفادت من المخزون الإبداعى الثقافى الهائل، وتحولت أيضا إلى «قوالب» حافظة له، من الضياع والتبدد، وإلى «قنوات» فعالة فى توصيله وانتشاره، فى أقل وقت، وإلى أوسع جمهور، وبأقصى دقة ممكنة.
حيث كان للثقافة والإبداع دورهما الحيوى فى تطوير وتكييف تلك «الوسائط الرقمية» بما يلائم احتياجات الإنسان والمجتمعات البشرية المعاصرة.
إذن العلاقة بين ” الإبداع مثل نصوص القصة الشاعرة ” ووسائط”الذكاء الاصطناعى كالانترنت”هى علاقة تكاملية مركبة، بين الظاهرتين.. لكنها لا تنفى أيضاً أن ثمة «فجوة» تاريخية عميقة بينهما، فقد جرى التعامل زمنا طويلا مع «الإبداع” والثقافة بوجه عام باعتبارها رسالة مجتمعية لتثبيت قيم الحق والخير والجمال، تُؤدى ـ غالباًـ بالمجان، أو مدعومة من سلطات مختلفة لترويج إيديولوجيا معينة. بينما «الوسائط الرقمية» تقنياً هى نتاج تطور مادى محدد، وتهدف إلى توفير أقصى درجات الرفاهية للمواطن “المتلقى” الذى حولته العولمة إلى “مستهلك”. فكيف يمكن للمبدع أن يجذّر الفجوة بين «قيم» المواطن وما تتصف به من ثبات نسبى، و«رغبات» المستهلك وما تتسم به من تقلب وتغير سريع؟ وكيف يمكن «تقدير» القيمة المادية للإبداع، ما لم تتم «موضعته» في صلب الاقتصاد ؟ فهو لم يعد ترفاً زائداً على الحاجة، أو مجرد رسالة سامية تتعاطاها نخبة ما على هامش الحياة.
من هنا يقدم لنا المفكر والمحلل جون هارتلى فى كتابه الشهير “الصناعات الإبداعية “رهانا أساسيا يتمثل في «الإبداع» «الذي سيقود التغير الاجتماعى وفى القلب منه الواقع الاقتصادى» فهو الآن «مصدر الميزة التنافسية»للمجتمعات، فبعد أن سادت الطبقة العاملة «أصحاب الياقات الزرقاء» «وطبقة الخدمات» «أصحاب الياقات البيضاء»، انتقلت السيادة الآن إلى الطبقة الإبداعية وهم أشخاص«بلا ياقات»، منهم كتاب ، وفنانون، وموسيقيون، ومبتكرون، لايعملون ساعات عمل منتظمة، ويرتدون ما يحلو لهم، ويوجهون مجتمعاتهم توجيهاً ناعماً.
وأبناء الطبقة الجديدة، يتميزون بالشره للتعلم، وتنوع الخبرات، وتعدد أماكن العمل، فهم لا يعملون فى مجال وحيد، ولا مع مستخدم واحد. ولا يهدفون من وراء التعليم إلى غرس وعاء للمعرفة بل إلى تطوير ملكات أساسية مثل القراءة، واتخاذ المبادرة، والعمل الجماعى،والابتكار، والتصرف بمسؤولية اجتماعية وكلها قيم إبداعية فى الأساس سوف تعثر عليها بسهولة ويسر فور تواصلك على سبيل المثال مع نص من نصوص القصة الشاعرة،
وإذا كان الكتاب والمبدعون قديما حريصين على«تقديم معلومات» تساعد فى القيام بسلسلة من الخطوات المنطقية داخل حركة المجتمع، لكنها فى الوقت ذاته لا تساعدنا في الاختيار بين خطوات متكافئة منطقياً. فإن فى هذا العصر، عصرالمزج بين الإبداع والذكاء الاصطناعى فإن الأولوية أصبحت للفكرة لا للمعلومة، ولإبداع الشخص وابتكاره فى الأساس وقبل أى شئ آخر، وليس ثمة فضاءات محددة لممارسة الإبداع، فكلها تأتى من «مصدر مفتوح» لا يقتصر على الباحثين والمحترفين، بل حتى الهواة والصغار يمكن أن يسهموا- إذا ما امتلكوا القدرة والموهبة- فى نص مبتكر مثل فن القصة الشاعرة، وقد قرأت نصوصا غاية فى النضج فى فن القصة الشاعرة لمبدعات ومبدعين صغار فى السن، هذا لأن نص القصة الشاعرة يملك ضمن ما يملك «جماليات العمل المفتوح»، حيث يشكل العمل الفنى «منتجا مفتوحا» بفضل قابليته لتفسيرات لا حصر لها، لا تتصادم مع خصوصيته ، ومن ثم فإن كل استقبال للعمل هو تفسير وعرض له فى آن، فجمالية العمل المفتوح تثبت علاقة جديدة بين تكاملية تفاعلية تجمع بين العمل الفنى واستعمالاته، وهذا بالتحديد التحدى الأكبر وأيضا الفضاء الأوسع لتنافسية عصر العولمة، وإذا كان “التذويب” لشخصية الفرد وكذلك المجتمعات هو جوهر العولمة ، وربما وجهها الشرير،حيث يتحول الإنسان المعاصر إلى واحد بذاته متخليا عن انتماءاته إلا لذاته، ولبعض معطيات بعينها من نتاج هذه العولمة، وهو ما يأتى غاليا على حساب ولاءاته المجتمعية الأخرى، هذا النوع القاسى من التحديات والتداعيات التى تواجه الإنسان المعاصر ومجتمعه معا، وتفرضه تلك النزعة الكونية في عالمنا الجديد.. لايمكن مواجهته إلا عبرتشجيع ودعم حقيقى لهذا المزيج الإبداعى الذى تصنعه أجناس مبتكره مثل القصة الشاعرة، الذى يجمع بين جماليات الإبداع ومعطيات الذكاء الرقمى عبر مجموعة من الدوال والدلالات والسياقات والفضاءات القادرة على التلقى والفهم والتواصل التفاعلى عبر لغة واحدة، قادرةعلى التعاطى بنجاح وإيجابية مع ما تفرضه حركة التحديث الراهنة من تداعيات و تحديات ومسئوليات جسيمة وخطيرة لن تترك شيئا، ولن تشفق على أحد تغافل أو تقاعس عن مواجهة تحدياته، أوأحالها إلى لافتة المستقبل، هذا المستقبل الذى لن يفتح فضاءاته إلا للمبدعين وحدهم.