منديل الحلو! بقلم د.إيمان عزمي
هذا هو الجزء الثاني الذي (يتبع) الجزء الأول المعنون بالطاقة الكامنة، وفيه أنه في عالم الكيمياء وعِلم الأحياء، تجد نظيرًا لطريقة “ياجو” في تغيير الأحداث وإدارتها مع الأفراد عن بُعد دون أن يدخل هو نفسه “ياجو” في التفاعل الحقيقي بين هؤلاء الأفراد، وهو عَمل “العامل المساعد” catalyst الذي هو قدرة بعض المواد على تغيير معدل التفاعل الكيميائي بتسريعه أو إبطائه دون أن تُستهلك أو يحدث فيها تغيّر كيميائي، تماما كاحتفاظ لاعب الآيكيدو بهدوء أعصابه وتوازنه أثناء مواجهة الخصم؛ فيبقى سليما معافًا دون أي تغيّر كيميائي أو استهلاك يُذكر في طاقته، وتماما كما خنق “عطيل” زوجته “ديدمونة” ثم طَعْنِه لنفسه منتحرًا حزنًا على زوجته، بعد أن كشفت له “إميليا” زوجة “ياجو” حقيقة أنها هي التي أخذت منديل زوجته المخلصة وأعطته لزوجها الذي طلب منها ذلك دون أن تعلم أنه يدبّر أمرًا خبيثًا وإجراميًا، وكان هذا المنديل هدية “ديدمونة” الأولى من حبيبها “عُطيل”، وكانت من فرط حبها لزوجها تكلّم منديله وتحتفظ به في صدرها، وهو هبة امرأة مصرية لأم عطيل؛ التي أوصته بدورها أن يعطيه لزوجته على ألا تفقده فتفقد حب زوجها، فقدته بدسيسة دون علمها فكان الخنق مصيرها.
كل ذلك دون أن يكون “ياجو” طرفًا ظاهرًا في التفاعلات المادية الملموسة لهذه الأحداث، هو فقط عامل مساعد لحدوث الحدث ونتائجه التي خطط لها في تميز بارع للإدارة – إدارة الأفراد والأحداث – عن بُعد.
كانت “ديدمونة” تكلم المنديل وتحتفظ به قريبا من قلبها من فرط حب وشغف وشوق، وليست كلماتها لمنديله كالكلمات التي تَغنى بها “عبد العزيز محمود” سنة 1949م في “منديل الحلو”، (لم تكن على دقة قلبها بتغنيلُه وتقوله آه يا سيد المناديل محلاك يا جميل، والنبي لاحكيله يا منديله، عمري ما هنساه، والقلب معاه، توهني وتاه، يا سبب سعدي، في عنيا هشيله يا منديله) رغم أنه هبة امرأة مصرية لأم عطيل!
كلماتها مختلفة “وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى” (آل عمران: 36) في هذا لو تعلمون. كلماتها كانت ممزوجة بآلام الفراق ولوعته لبُعد زوجها تلبيةً لنداء الواجب كقائد في جيش البندقية – وإن شئت لِسَعيٍ في عمل وإخلاص في إتمام حركة الحياة، ولم تكن وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية متاحة آنذاك لتطفئَ شيئا من لهيب هذا التوق، ذلك الذي استُخدِم بإتقان في الخفاء لإماطتها عن طريق سعادة “ياجو” (القريب الناصح حامل راية القائد في جيش البندقية). سعادته كانت في إتعاس قائده وزعزعة يقينه في حب زوجته بإيمانٍ وقر في قلبه وصَدّقه عَمله كثيرًا، فكان أن زعزع يقينه هذا بمنديل، وخَلَقَ عَذابًا كالفتنة.
والفتنة اختبار ليقين الإيمان، والفتنة ابتلاء وعذاب، “وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ” (البقرة: 191)، “وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ” (البقرة: 217) في ظروف الفراق والبُعد وحفظ الأمن والحرب، وأعز ما تكون في القريب المحبوب المرغوب، كمال أو ولد “وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ” (الأنفال: 28)، “وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ” (الفرقان: 20)، أو علم “وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ” (البقرة: 102)، أو حتى خير أو شر “وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً” (الأنبياء: 35).
كانت كلماتٌ تلك التي جعل بها “ياجو” “فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ” (العنكبوت: 10). ربما لذلك “ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ I تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ I وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ I يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ” (إبراهيم: 24-27). “لَيْسَ بالخُبزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإنسَان، بل بِكَلمةٍ تَخرُجُ من فَمِ الله” (إنجيل متى 4: 4)، و”إن كُلّ كلِمَةٍ بَطّالةٍ يتكَلّمُ بها النَاسُ سَوْفَ يُعطُونَ عنها حِسابًا يَوْمَ الدّين” (إنجيل متى 12: 36).
نعم “مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا” (المائدة: 32) ولكن “قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ” (الأنفال: 39)، و”إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ” (الأنفال: 73)، وأعظم القتال هو الجهاد، ذلك لأن القِتال تطاحن وصراع، وبفتح القاف تكون النفس، وأعظم الجهاد جهاد النفس، ذلك الذي كان يمكن أن ينقذ بيت عطيل وينقذه هو نفسه من الخراب والكفر بإيمانه، ربما لو لم يكن “ياجو” مُقَربا وقريبًا من “عطيل” لاتخذ حذره وقاتل حتى لا يُفتن في يقينه، واستعان بمن خلقه وخلق الفتنة ودعا: “رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ” (يونس: 85)، ولكنه فُتِن وكان فسادٌ كبير رحلت فيه “ديدمونة” على يد من تحب … (يتبع)