التدخل الفرنسي في مالي وأفريقيا.. ماضٍ استعماري ومستقبل ذو تبعية استراتيچية !
بقلم/ وليد أحمد وفيق
دائما هناك رابط حيوي يربط الدول الاستعمارية بمستعمراتها القديمة وهذا الرابط يعد بمثابة حبل سري من أجل ديمومة التدخل عند الحاجة إذا استدعى الأمر فهناك على سبيل المثال الرابط الذي يربط بريطانيا كإمبراطورية إستعمارية قديمة بدول الكومنولث البريطاني الذي يربط الهند واستراليا وباكستان على سبيل المثال ببريطانيا ونفس الرابط يربط فرنسا بمستعمراتها القديمة في افريقيا عبر الرابط الفرانكوفوني لذلك لا يجب أن نستغرب التدخل عند الحاجة من قبل القوى الكبرى في مستعمراتها البائدة التي نالت استقلالها ظاهريا ولكن باطنيا التأثير الامبراطوري القديم ما زال موجودا وفاعلا لكنه لا يظهر إلا عند حدوث الأزمات وهذا ما يحدث دوما وسيحدث مستقبلا ومثال على ذلك التدخل الفرنسي في افريقيا ومالي على وجه الخصوص كما حدث سابقا وفي إشارة واضحة على وجود الدور الاستعماري الفرنسي في افريقيا خلال أزمة ساحل العاج أو كوت دي ڤوار وغيرها من الازمات التي تجلى فيها هذا الدور والتأثير .
إن أزمة مالي تعود إلى عقود مضت من التعارض بين الحكومة المركزية ومجموعات مسلحة من الطوارق تطالب بعدد من الحقوق، وقد تتطرف الجماعات المسلحة في مطالبها إلى حد المطالبة بإستقلال منطقة أزواد على سبيل المثال، وفي كل مرة تتصاعد الأزمة بين المسلحين والحكومة تنتهي بإجراء مزيد من المفاوضات، يعطى من خلالها الطوارق عدد من الإستحقاقات تنتهي بموجبها الأزمة دون الحاجة لتدخل خارجي. إلا أن الأزمة الأخيرة أخذت منحى آخر، وساهم في تطورها عدد من العوامل منها: سقوط نظام القذافي في ليبيا مما مكن الطوارق من الحصول على أسلحة متطورة وبسط نفوذهم على شمال البلاد، بالإضافة إلى الإنقلاب العسكري الذي قاده أحد قادة الجيش، ممن تدرب في أمريكا سابقا.
هذا الإنقلاب أضعف قدرات الجيش المالي على مواجهة تمرد الشمال وأدى إلى إنقسام البلاد، وهو الأمر الذي ساعد الطوارق في حربهم ضد الجنوب. وزاد الموقف تعقيدا مع دخول مجموعات إسلامية مسلحة على الخط، ودعمها للطوارق في حربهم وسيطرتهم على عدد من المدن في الشمال.
هذا المشهد رغم تعقيداته كان من الممكن التوصل فيه إلى حلول ترضي جميع الأطراف، من خلال ممارسة ضغوط من دول الجوار على الأطراف المتصارعة، خاصة وأن الفصيل الإسلامي الرئيسي في الشمال، جماعة أنصار الدين، والذي يسيطر على معظم المدن الشمالية، أعرب عن قبوله للحوار وأبدى مرونة في هذا المجال، إلا أن المشهد تطور مع تدخل فرنسا عسكريا تلبية لنداء استغاثة من السلطات لوقف زحف الإسلاميين المسلحين نحو باماكو العاصمة، وقصف الطيران الفرنسي مواقع في معقلهم بكيدال وسيطر الجيشان الفرنسي والمالي على غاو كبرى مدن شمال مالي التي إستعاداها إثر هجوم خاطف، في الوقت الذي يقود مالي سلطات إنتقالية، تشكلت بعد الإنقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس أمادو توماني توري في ٢٠١٢ مما سرع في سقوط شمال مالي في أيدي الحركات المسلحة والمتمردين الطوارق.
إن الهدف الأول للتدخل العسكري الفرنسي هو حماية مصالح فرنسا الإقتصادية والسياسية، وفرنسا كقوة إستعمارية سابقة في أفريقيا، لم تقبل أن تفقد مناطق نفوذها السابقة لصالح قوى أخرى بدأت تتغلغل إليها كالصين وإيران وتركيا، لذلك رأت أن الوقت والظروف مناسبان لحماية مصالحها.
بالطبع ستتأزم الأوضاع الداخلية إثر هذا التدخل، وحتى في حال نجاح الخيار العسكري، فإن فرنسا ستطلب من الحكومة المالية مزيدا من التبعية لباريس رداً للجميل، مما يعيد حقبة الإستعمار لأفريقيا مرة آخرى خاصة بعد إكتشاف الموارد المعدنية واحتياطيات من النفط واليورانيوم والغاز والفوسفات في إقليم أزواد.
أنه من المخيف أن يكون التدخل الفرنسي مدخلا لتطبيق السيناريو الصومالي في مالي، خاصة وأن معظم الدول المحيطة بمالي دول هشة وستتضرر من التدخل الفرنسي، ففي موريتانيا عدد من المتمردين وتعاني نواكشوط من أوضاع أمنية واجتماعية وإقتصادية مزرية لن تحتمل حرب إستنزاف طويلة في هذه المنطقة، بالإضافة إلى الجزائر التي ترتبط بحدود طويلة مع مالي مما يصعب السيطرة التامة عليها، فضلا عن أن ردود فعل الجماعات المسلحة التي تسيطر على شمال مالي لا يمكن التحكم فيها، وقد تلجأ إلى دخول أراضي الجزائر في حال إشتداد الضغوط عليها.
إن التدخل الفرنسي في مالي يعتبر بمثابة حرب إستباقية ومقامرة كبيرة سيكون له ثمن باهظ، وهو إستمرارا لخطط الهيمنة الغربية على ثروات القارة السمراء، وتكرارا مستهلكا لاستراتچيات إتبعت في الحرب على العراق لتغيير الكل بالجزء. إن أزمة مالي متشعبة ومعقدة، ولن تنتهي باللجوء إلى الخيار العسكري.
منذ فترة وأخبار التدخل الفرنسي تحتل صدر الصفحات الأولى في الجرائد والصحف ونشرات الأخبار في الإعلام الفرنسي والفرانكوفوني في مالي وبلدان أفريقية عدَة. لكن بعض هذا الإعلام وهو البعض الأقل والأضعف ينتقد بشدة ذلك التدخل، في حين أن معظم الإعلام يرحب به. حتى أن الصحافة الأفريقية انقسمت مواقفها أمام التدخل الفرنسي في مالي، كما في الصومال، بين مؤيد بخجل ومندد بشدة، فهل لفرنسا مصلحة من وراء تدخلها العسكري فيها؟ فوراء كل تدخل عسكري غربي في أي بلد يشهد حربا داخلية، هدف يرمي البلد الغربي المتدخل إلى تحقيقه، وهو وضع اليد على ثرواته الطبيعية، ولاسيما إذا كانت تلك الثروات مواد أولية نادرة كاليورانيوم والبلوتونيوم والسيليكون وما إلى ذلك أما الذهب الذي يشكل15% من موارد مالي المالية، فمناجمه نادرة وقليلة حوالى10 مناجم فقط وهو إلى جانب القطن، يشكل المورد الوحيد للاقتصاد المالي الذي تراجع بنسبة 4.5% عن العام الماضي، عندما بدأ تمرد قبائل الطوارق على السلطات المالية.
إن فرنسا ليست لها أطماع في مالي إلا من زاوية كونها ملاصقة للنيجر، حيث تستخرج شركة أريڤا الفرنسية مادة اليورانيوم. وسيكون لامتداد النزاع إلى شمال النيجر مفعول خطير على أمن فرنسا لجهة تزودها بانتظام باليورانيوم الذي يشكل مصدر طاقة مهمة جدا بالنسبة إليها و”أريڤا” هي نتيجة تضافر جهود شركتيْ “ألستوم” و”شنيدر إلكتريك”، وهي مجمع صناعي فرنسي مختصّ بالصناعات النووية، ولها أنشطة تجارية في أكثر من 100 دولة، وأنشطة صناعية في 43 دولة. والنيجر بلد استراتيجي بالنسبة إلى شركة “أريڤا” التي تستخرج منه أكثر من ثلث حاجاتها من اليورانيوم وهذا ما يفسر تحملها للمخاطر جراء بقائها في هذا البلد.
غير أن الشركات الفرنسية اكتشفت امتدادا هائلا لمناجم اليورانيوم في النيجر تصل إلى أعماق الداخل في مالي. وعلاوة على ذلك، فإن مالي تحاذي موريتانيا الغنية بالنفط، والتي تحصل شركة “توتال” الفرنسية على النصيب الأكبر منه، وتحاذي ساحل العاج (كوت ديفوار) عاصمة منطقة الفرنك الأفريقي، كما تحاذي الجزائر الشريك التجاري الأول لفرنسا، والسوق الثالثة لتصريف منتجاتها الصناعية خارج منطقة منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، وكان وزير الخارجية الفرنسية قد طرح، ضرورة قيام شراكة استراتيچية بما فيها التعاون العسكري بين فرنسا والجزائر، وسرعان ما وضعت هذه الشراكة موضع التنفيذ باشتراك الجيش الجزائري في شنّ الهجوم على مجموعة من الجهاديين احتجزوا عدداً كبيراً من العاملين في منشأة نفطية جنوب شرق الجزائر، بمن فيهم الأجانب من فرنسيين وبريطانيين وأميركيين ويابانيين.
إذا، وباستثناء المبررات الچيوسياسية والأمنية التي يطرحها استيلاء المتمردين على الحكم في مالي، وانعكاس ذلك في زعزعة الأوضاع الأمنية في منطقة الساحل الافريقي، وفي ما يتعدى المبررات الإنسانية الهادفة إلى مساعدة الأهالي الذين يتعرضون للتهجير، يطرح السؤال حول المصالح الاقتصادية لفرنسا من وراء هذا التدخل.
وعلى الرغم أن مالي مستعمرة سابقة لفرنسا، حصلت على استقلالها من فرنسا في العام 1960، وما زالت فرنسا تحتفظ بعلاقات تجارية مميزة معها، لكنها علاقات ليست بأهمية تذكر؛ فبحسب وزارة الخارجية الفرنسية تحتل مالي المرتبة السابعة والـثمانين بين الدول التي تشتري من فرنسا، والمرتبة الخامسة والستين بعد المائة بين الدول التي تبيع إليها. ولا تتجاوز صادرات مالي من القطن والأبقار والذهب إلى فرنسا 10ملايين يورو سنويا، أي ما نسبته 0.002% من جملة ما تستورده فرنسا من جملة دول العالم خلافا لذلك، فإن فرنسا كانت في العام 2015الدولة الرابعة المصدرة إلى مالي، من دون أن تتجاوز قيمة صادراتها إليها 280 مليون يورو، أي ما يعادل 0.065% من جملة صادرات فرنسا.
في مالي 50 فرعاً لمؤسسات تجارية فرنسية أو ذات رأسمال فرنسي، تشغل ما يقارب 2500 شخص 65% من هذه المؤسسات تعمل في المجال الخدمي، و15% منها يعمل في القطاع الصناعي، و20% في القطاع التجاري. وفي مالي أيضاً حوالى 60 مشروعا استثماريا خاصا تعود ملكيته إلى فرنسيين مقيمين في مالي أو إلى ماليين متجنسين بالجنسية الفرنسية. غير أن فرنسا تأتي في المرتبة 111 بين الدول التي لها استثمارات في مالي. يبلغ عدد المستثمرين الفرنسيين في مالي حوالى 5 آلاف مستثمر. في حين أن الجالية المالية في فرنسا تعد حوالى 80 ألف شخص.
بررت فرنسا تدخلها العسكري في مالي بكونها تستجيب لنداء المساعدة العسكرية التي يطلبها منها الرئيس المالي فلماذا قرر الرئيس الفرنسي التورط بالتدخل في مالي، وطلب المساعدة من بعض الدول العربية وفي مقدمها الإمارات والجزائر؟ ولماذا قررت الجزائر فجأة إغلاق حدودها مع مالي وتقديم مساعدة لفرنسا في تدخلها هذا، بالسماح للمقاتلات الفرنسية بالطيران فوق أراضيها؟
الأزمة التي تعاني منها مالي مزدوجة، نتيجة اغتنام الجهاديين الإسلاميين فرصة تمرد الطوارق على السلطات المالية المركزية، من أجل فرض سيطرتهم على شمال البلاد، ويمكن تفسير وقوع شمال مالي في يد الجهاديين التابعين للزعيم الإسلامي ناصر الدين، ويسمون “أنصار الدين” لكن الأقرب إلى المعقول هو أن التنافس الأميركي الفرنسي على المنطقة أدى إلى “زج” فرنسا التي اعتقدت أنها بذلك تسبق الولايات المتحدة إليها، وإن كان الطرفان متفقين على تفكيك بلدان المغرب العربي على غرار ما يجري من فرط لكيانات الدول العربية المشرقية، وتفتيتها إلى كيانات ووحدات عرقية ومذهبية وقبلية.
حالياً، بلغ عديد قوة التدخل العسكري الفرنسي في مالي حوالى 1500، وسيرتفع هذا العدد إلى 2500 فور وصول القوة الأفريقية وجهوزيتها العسكرية. كما من المنتظر أن يسفر الاجتماع الاستثنائي لمجلس وزراء الخارجية في دول الاتّحاد الأوروبي للبحث في التدخل الفرنسي في مالي، عن إجراءات تنفيذية عسكرية.
غير أن التدخلةالفرنسي ليس لعبة فيديو يمكن إيقافها، أو المضي فيها ساعة يريد اللاعب. وفرنسا تلعب اليوم لعبة التدخل الاستعماري من جديد، وتعيد إلى الأذهان تجارب ماضيها الاستعماري في البلدان الأفريقية؛ فإذا انتصرت على الجهاديين فإنهم سيعودون متى سحبت قواتها من مالي، وإذا انهزمت فسوف تصبح أضحوكة في نظر الأفارقة. وفي كلتا الحالتين ستكون فرنسا خاسرة، إن كان على المدى القريب أو على المدى البعيد، وسيدفع الثمن القتلى من الجنود والرعايا الفرنسيين، الذين ربما يربحون أيضاً نقاطا إضافية وعلاوات على رواتبهم ومعاشاتهم التقاعدية. وحدها ربما سوف تربح مصانع الأسلحة ومصانع السيارات والعربات العسكرية وناقلات الجند.
فرنسا هي البلد الأوروبي الوحيد الذي ينشر قوات عسكرية ميدانية في مالي خاصة والساحل الإفريقي عامة، منذ 2013.
نشرت فرنسا آلاف الجنود سنة 2013، عندما تدخلت لمساعدة الحكومة المالية على استعادة مساحات شاسعة من أراضيها الشمالية من بينها مدن تمبكتو وغاو التي استولى عليها الإسلاميون المتشددون.
وزاد انتشار الجماعات المتطرفة في منطقة الساحل، وهي منطقة إفريقية تمتد من ساحل المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر وتشمل ما لا يقل عن 14 دولة، بما في ذلك أجزاء من مالي وموريتانيا وبوركينا فاسو وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى.
كما تعود أسباب التواجد العسكري الفرنسي في أقطار الساحل الإفريقي لدوافع تاريخية أيضا، فالاهتمام الفرنسي بهذا المنطقة يعود إلى الحقبة الاستعمارية، فقد احتلت فرنسا السنغال وموريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر.
وعلى الرغم من أن دول أوروبية عديدة تقدم الدعم اللوجستي، إلا أن فرنسا هي الدولة الوحيدة التي لها وجود عسكري دائم على الأرض في الساحل، ذلك ما تنتقده كل من أحزاب اليسار واليمين في فرنسا.
تسعى الحكومة الفرنسية، إلى مشاركة دول أوروبية أخرى في الحرب ضد الجماعات المتطرفة في الساحل، والتي يمكن أن تكون ملاذا آمنا للجماعات الإرهابية، بنفس الطريقة التي فعلتها في أفغانستان والسودان في العقد الأول من القرن الماضي سنة 1990.
لذلك حثت فرنسا الدول الأوروبية الأخرى على بذل المزيد من الجهد في غرب إفريقيا ، مشيرة إلى أنه إذا كانت الجماعات الإرهابية قادرة على التحرك بحرية في هذه المنطقة، فإنها تهدد القارة ككل.