اليابان وطريق تمردها على الوصاية الأمريكية!
وليد أحمد وفيق
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية واليابان تسبح وتدور في الفلك الأمريكي حيث كان من شروط استسلامها أن تظل تابعة للولايات المتحدة الأمريكية تقرر لها ما تراه مناسبا لليابان ويخدم مصالحها في شرق آسيا حتى بدأت اليابان في الآونة الأخيرة تحديدا منذ سنوات قليلة في البحث لنفسها عن دور بعيدا عن التبعية للولايات المتحدة الأمريكية وفي سبيل ذلك بدأت
اليابان تتحرك ببراجماتية وهدوء حذر نحو الانسلاخ من التبعية الأمريكية.
شهد شهر يوليو تموز 2018 انعاطفًا هائلا لليابان عن السياسة الأمريكية إذ جرى فيه توقيع أكبر اتفاقية ثنائية للتجارة الحرة على الإطلاق. الاتفاقية الموقعة بين الاتحاد الأوروبي واليابان أتت بعد شهرين من انسحاب الولايات المتحدة في شهر مايو آيار 2018 من الاتفاق النووي الإيراني وما تلاه من فرض مزيد من العقوبات على إيران. بهذه الاتفاقية وضعت اليابان نفسها ضمن أكبر كيان مناهض لسياسة ترامب العدوانية، كما وصفها دونالد تاسك رئيس المجلس الأوروبي.
سياسات ترامب تلك قد تكون هي الدافع وراء هذا التمرد الياباني. قبل توقيع اليابان اتفاقيتها مع الاتحاد الأوروبي أُصيب شينزو آبي بطعنة أمريكية بتخلي الأخيرة عن اتفاقية تجارية ناضل شينزو آبي من أجلها طويلا. كان المتوقع أن تساعد الولايات المتحدة عبر هذه الاتفاقية في رفع مستوى أقاليم اليابان غير المنتجة، لكن ترامب لا يكترث كثيرا بالبلدان الأخرى.
عاد ترامب إلى الصورة مرة أخرى في ما يبدو أنه ذلة لسان لرئيس الوزراء الياباني تكشف عن مكنون صدره إذ قال أثناء زيارته للصين أنه على الدولتين الجارتين أن يحاولا الهرب من الضغط الأمريكي. الولايات المتحدة التي يراها آبي سببا مباشرا في إشعال نار الخلاف بين الصين واليابان لمدة 70 عاما. أكد شينزو آبي تصريحاته بزيارة تاريخية للصين برفق 500 مستثمر ياباني، وأثمرت الزيارة عن توقيع اتفاقيات تجارية بين البلدين جاوزت زهاء 30 مليار دولار. هذا التقارب بين البلدين ينطلق من شعورهما بخطر سياسات الولايات المتحدة على استقرار العالم.
سياسة ترامب التي ينتهجها منذ وصوله للبيت الأبيض أن لكل شيء ثمنا، حتى الحماية الأمريكية. هذا المنهج ظهر بفجاجة في تعامله مع دول الخليج العربي، مما أجبر الخليج على دفع عدة مليارات إلى ترامب من أجل شراء الحماية والدعم الأمريكيين. مثلت تلك السياسة صدمة لدولة تعتمد بالكامل على الولايات المتحدة في أمور الحرب سواء الهجوم أو الدفاع عن النفس مثل اليابان. إذ تنص المادة التاسعة في الدستور الياباني على أن اليابان تطمح إلى السلام الدولي القائم على العدل، وأن الشعب الياباني ينبذ الحرب كحق سيادي، كما يرفض التهديد أو استخدام القوة كوسيلة لتسوية الخلافات الدولية.
ثُم تتبع المادة بتوضيح يقول، إنه من أجل تحقيق هذا الهدف فإن القوات البرية والبحرية والجوية ووسائل الحرب المحتملة لن تبقى، ولا يعترف بحق الدولة في إعلان حالة الحرب. لذا حاليا فالجيش الياباني رسميا هو جيش دفاعي، دوره حماية أرضه من الداخل فقط.
لكن بعد التغيرات التي زامنت وصول ترامب بدأ شينزو آبي في إحياء مسعاه القديم لتغيير الدستور الياباني لتصبح اليابان دولة مهابة في محيطها. خاصة وقد أصيبت اليابان بخيبة أمل من محاولات ترامب الماضية للوصول إلى هدنة مع كوريا الشمالية. اليابان تحت تهديد أسلحة جارتها الشمالية بشكل مباشر وكانت تعتمد على أن الولايات المتحدة ستصد أي هجوم شمالي عليها، خاصةً وأن اليابان تدفع فعلا ثمنا باهظا يصل إلى 75% من احتياجات القوات الأمريكية الموجودة على أرضها، لكن حين لاحت احتمالية توصل الولايات المتحدة إلى اتفاقية دبلوماسية مع كوريا الشمالية أدركت اليابان أن ترامب يمكن أن يتخلى عنها في أي وقت.
انتقل القلق من المستوى الرسمي إلى المستوى الشعبي.، فأصبحت الحكومة اليابانية مدفوعة بضغط الشارع إلى البحث عن تحالفات جديدة حتى لو ألقت بنفسها في أحضان الصين. خاصة مع الحرب التجارية القائمة بين الولايات المتحدة والصين التي قد تبدو دليلا على العداء، لكن اليابان تراها دليلا على الاهتمام.يخشى اليابانيون، شعبا وحكومة، أن تنصرف عنهم الولايات المتحدة لصالح الصين. فلأن الصين صارت أقوى اقتصاديا، ولا يمكن محاربتها عسكريا، فالولايات المتحدة لن تفوت فرصة التحالف معها متى سنحت الفرصة. لذا بجانب محاولات التودد للصين فإن اليابان تحاول جاهدة أن تعود دولة طبيعية بقدرات دفاعية كاملة، حتى أن هناك دعوات لتطوير سلاح نووي ياباني.
الدولة الطبيعية التي تمضي اليابان نحوها بخطواتٍ ثابتة هى دولة ذات موقف سيادي واضح. لا أن يظهر آبي في كل صوره وسيطا ضعيفا بين القوى الكبرى الغاضبة. يمكن قراءة الحال الياباني في الصورة التي نشرتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في التاسع من يونيو حزيران 2018. في الصورة يجلس ترامب ضاما ذراعيه غاضبا وتضع ميركل يدها على الطاولة في وضع عداوني ، وبينهما يقف آبي حائرًا يقول في عقله إن لدور الوسيط حدودا.
قدمت اليابان أقصى طاقتها مرة في أكتوبر تشرين الأول عام 2009. قامت السفن اليابانية بإمداد سفن الولايات المتحدة وحلفائها بالوقود والماء في حربها في أفغانستان طوال ثماني سنوات. لكن في 2009 أعلن يوكيو هاتوياما، رئيس الوزراء آنذاك، أنه سوف يسحب سفنه العسكرية و لن يشارك في الحرب. الولايات المتحدة حاولت احتواء هذا التمرد بإعلان أن الانسحاب تم وفق اتفاقٍ مسبق يمنح اليابان حق الانسحاب في مقابل المشاركة بصورة أعمق في إعمار أفغانستان. مثل دفع رواتب الشرطة الأفغانية لمدة 6 أشهر، ودعم مشاريع تعليمية واجتماعية أخرى.
قد تبدو التكلفة المادية لهذا التمرد كبيرة إلا أن مردودها الشعبي والمعنوي كان هائلا. وهو أمر تريده اليابان كدولة ويريده شينزو آبي كرجل سياسي يجيد العزف على الوتر المناسب في الوقت المناسب. خاصة وأن اليابان سوف تصبح القوة الضاربة في آسيا في خلال سنواتٍ عدة. الحقيقة التي يجمع عليها الاقتصاديون والمحللون بأن اليابان والصين هما من سيقودا آسيا مستقبلا. يعللون ذلك بفروق واضحة مثل اتساع رقعة الثروة في اليابان كذلك في الصين الصين التي يسيطر على ثرواتها عدد محدود، كذلك أن الفقر في الصين أعلى منه في اليابان. إضافة أن اليابان تقفز قفزاتٍ هائلة في مجال الذكاء الاصطناعي، وتضع أمامها دائما الرغبة في الاكتفاء الذاتي من كل ما تستورده حاليا.
وإذا لم تنهض الولايات المتحدة من عثرة تولي ترامب خاصة، واليمين عامة، لمقاليد السلطة، وإذا لم تتغير السياسات العدوانية، فإن الولايات المتحدة سوف تضيع حليفا مضمونا وتصنع منه عدوا أشد شراسة من الصين وكوريا الشمالية في منطقة شرق آسيا وهى مقبلة على تحدي الصين في مجالها الحيوي .