كتب: سمير عبد الشكور
يعيش العالم هذه الأيام واحدة من أعمق وأخطر الأزمات التي عرفتها البشرية، ليس في العصر الحديث فحسب، بل على مر تاريخها الطويل ، آلا وهي الأزمة في مباغتتها لدول العالم اجمع، غنيه وفقيره، متقدمه او سائرة في طريق النمو، وفي حيز انتشارها الجغرافي، الذي شمل كل الأصقاع، وفي سرعة انتشارها غير عابئة بالحدود ولا المسافات، وفي شمولية قطاعات ومجالات الحياة التي تأثرت بها، فإن كان ظاهر هذه الأزمة يبدو للوهلة الأولى، أنه موضوع صحة عامة ، إلا أن حقيقته أبعد من ذلك وبكثير، فآثاره السلبية لا مست مختلف مناحي الحياة من صحة، واقتصاد، ومال، وأعمال، وطاقة،وأمن، وتعليم، وأمن غذائي ، ونقل ، وسياحة، وبنية تحتية وعلاقات دولية، وأواصر مجتمعية، وممارسة الشعائر والمعتقدات الدينية . . . . . والقائمة تطول.
إن عمق الجراح التي خلفتها، وستخلفها هذه الظاهرة المتعددة الأبعاد، تجعل العالم ، ومنه وطننا العربي ، مدعوا إلى أن يبادر ويسارع لاتخاذ الإجراءات التي من شأنها أن تضمد – وبأقصى ما يمكن من السرعة – الجراح ، التي تشير جل المؤشرات إلى أنها ستظل تنزف ولفترة طويلة ، وأن الرهانات المرتبطة بعالم ما بعد كورونا، ستكسبها فقط الدول والمجموعات الإقليمية التي ستستطيع أن تتخذ، وبالسرعة والإحكام المطلوبين ، تدابير لتخفيف آثار هذه الأزمة على مواطنيها، لاسيما الفئات المعرضة بحكم هشاشتها للتاثر بالقسط الأكبر من هذه الآثار.
إنه لمما يثلج الصدور في هذا السياق، أن نلاحظ وبكل ارتياح ، أن المقاربات التي أتبعتها دولنا العربية وحتى الآن، للتعاطي مع المكون الصحي لهذه الأزمة، كانت إجراءات في مستوى التحدي، وأعطت نتائج تدعو للارتياح، وإننا إذ نهنىء حكوماتنا العربية على ما تحقق من مكاسب في هذا المجال لندعوها لمزيد من التصميم والمثابرة، فالتعاطي مع تداعيات الحدث في كل مناحي التنمية المستدامة، سواء منها الاجتماعية أو الاقتصادية أو البيئية أو الزراعية ، يحتاج لنفس طويل.
ولا يخفى على المتتبعين لمسار هذه الأزمة، أن قطاع الأمن الغذائي، وهو القطاع الذي تضطلع المنظمة العربية للتنمية الزراعية بمتابعة ورصد العمل العربي المشترك فيه ، سيكون من أكثر القطاعات تأثراً بهذا الظرف العصيب، الذي يمر به العالم حالياً ، حيث رصدت المنظمة مجموعة من الآثار المحتملة لهذا الوضع على الأمن الغذائي العربي بمحاوره المختلفة التى يمكن ان نذكر منها :
صعوبة الوصول إلى أسواق البيع بالجملة والتجزئة وأسواق مدخلات الإنتاج نتيجة لسياسات الإغلاق التي اتبعتها الدول عربياً وعالمياً والتي فرضتها ضرورة التعاطي مع ظاهرة نقص العمالة نتيجة لتقييد الحركة والآثار السلبية التي سيرتبها ذلك النقص على المساحات المزروعة والإنتاج والحصاد للموسم الحالي والمواسم القادمة محلياً وعالمياًوخاصة إذا طال أمد الجائحة مما سيترتب عليه نقص في المعروض وارتفاع بالطلب وبالتالي ارتفاع الأسعار محلياً وعالمياً ويزداد اثر ما تبنت الدول المصدرة لسياسات حمائية اغلاقية، وهو ما بدات دلائله الأولي تلوح في الافق.
انخفاض المخزونات الإستراتيجية للدول، وخاصة إذا ما طال أمد الجائحة نتيجة للسحب الزائد دون تعويض.
حدوث تأثيرات سلبية علي مستويات الفقر بابعاده المختلفة وزيادة اعداد الفقراء نتيجة للزيادة المتوقعة في اعداد العاطلين عن العمل وانخفاض دخول ذوي الدخل المحدودممن يعتمدون في العيش على الدخل اليومي في الريف والحضر علي حد سواء، وهو ما سيترتب عليه انخفاض قدراتهم على تأمين احتياجاتهم من السلع الغذائية الرئيسية ، بالتالي تعرضهم لحالات سوء تغذية وانعدام الأمن الغذائي ، حيث تشير بعض التقارير الى أن أعداد الفقراء في المنطقة العربية سيزيد بأكثر من 8 مليون شخص .
إستمرار في تكوين ومراقبة مخزونات غذائية كافية من السلع الإستراتيجية. ترقية التجارة البينية العربية للسلع الغذائية في هذه الفترة.
· تبسيط إجراءات استيراد الغذاء ،سواء على مستوى التخفيف من القيود الإدارية،أو تسهيل اتحويلات المصرفية، أو عند الإقتضاء تنظيم عملية استيراد مشتركة لبعض السلع من طرف دولتين فأكثر،
· وضع برامج للحماية الإجتماعية لتأمين حصول المواطنين وبشكل خاص الطبقات الهشة على الغذاء، ولو تطلب ذلك إعفاء بعض السلع من الرسوم الجمركية وضرائب المبيعات أو تعليقها مؤقتاَ.
· السعي الى تبني برامج خاصة بدعم القطاع الزراعي وخاصة صغار المنتجينبما يمكنهم من تجاوز الأثار السالبة للجائحة (Package Stimulus)
· القيام عند الأقتضاء بإتخاز تدابير حمائية موقته لحماية المنتجيين في القطاع الزراعي في الدول العربية خاصة على مستوي السلع الإستراتيجية.
تنفيذ برامج ارشادية وتحسيسية من أجل مواجهة هدر الغذاء وتخفيض نسبة الفاقد من الغذاءأما على المدى المتوسط، فقد أصبحت العودة إلى مفهوم الإكتفاء الذاتي الغذائي ،تطرح نفسها وبإلحاح في ظل تكرار الأزمات التي قد تعيق مسالك التجارة الدولية للغذاء .
وفي هذا السياق، فإنه يجدر التذكير بأن المنطقة العربية قد مرت بتجربة مماثلة في العام 2008 م عندما، ارتفعتأسعار السلع الغذائية نتيجة لإستخدام المنتجات الزراعية في إنتاج الوقود الحيوي وقيام بعض الدول المصدرة للسلع الغذائية الرئيسية بإيقاف تصدير تلك السلع، مما حدى بالمنظمة العربية للتنمية الزراعية حينها إلى إعداد البرنامج الطارئ للأمن الغذائي العربي، والذي يسعى إلى زيادة واستقرار إنتاج الغذاء في الوطن العربي وشمل هذا البرنامج محاصيل العجز الرئيسية وهي : الحبوب، المحاصيل السكرية، الحبوب الزيتية، المنتجات الحيوانية، والبقوليات والبطاطا والمحاصيل العلفية و التمور وتضمن البرنامج ثلاث مكونات رئيسية، وهي تحسين مستويات الإنتاجية في الزراعات القائمة، استثمار المزيد من الموارد الأرضية بالإستفادة من العوائد المائية لترشيد إستخدام مياه الري ومصادر المياه غير التقليدية، و مكون المشروعات الإستثمارية المتكاملة والمرتبطة بأنشطة البرنامج. وتم عرض البرنامج على القادة العرب في القمة العربية التنموية: الإقتصادية والإجتماعية التي عقدت بالكويت في 20 يناير / كانون الثاني 2009 م، حيث اتخذت القمة قراراً بإطلاق البرنامج الطاريء للأمن الغذائي العربي، و تكليف المنظمة بوضع خطتة التنفيذية ومتابعة تنفيذها وقد حقق البرنامج في مرحلته الأولى (2016 -2011 ) نجاحاً فاق المخطط له حيث ازدادت المبالغ المستثمرة في القطاع الزراعي العربي عن تلك المتوقعة للبرنامج وبلغت نحو (32) مليار دولار بزيادة مقدارها نحو (6) مليار دولار عما كان مخططاَ له ، كما ساهم تنفيذ البرنامج في تحقيق انخفاض ملموس للفجوة الغذائية العربية مقارنة مع ما كان عليه الوضع قبل إطلاق البرنامج.
وفي ضوء هذه النتائج المشجعة قامت المنظمة بإعداد البرنامج التنفيذي للمرحلة الثانية للبرنامج (2017 -2021 )، وعرضته على الملجلس الإقتصادي والإجتماعي لجامعة الدول العربية والذي أصدر قراره بالموافقة على البرنامج.
وقبل إنتهاء المرحلة الثانية للبرنامج وبدء الجائحة إستبقت المنظمة الظروف الإستثنائية التي أحدثتها الجائحة وقامت بإعداد مذكرة للعرض على جمعيتها العامة التي تتكون من جميع أصحاب المعالي وزراء الزراعة العرب في إجتماعها الذي كان مخططاَ له يوم 9 ابريل 2020 م المنصرم. وتناولت هذه المذكرة آفاق ضرورة تطوير البرنامج في مرحلتة الثالثة والتركيز على زيادة نسب الإكتفاء ولا شك أن الوضعية الراهنة تتطلب إيلاء المزيد من الإهتمام لهذا البرنامج ،وتقييم تجربتة وملاحظة نقاط القوة والضعف المستنبطة من هذه التجربة ،وإدخال التحسينات اللازمة عليه لإعطائة القدرة التي تجعلة قادراً على إيجاد الحلول المناسبة لإشكاليات الأمن الغذائي العربي ،التي طرأت وستطرأ خلال مرحلة ما بعد فيروس كورونا وموازاة مع اعطاء دفع جديد لهذا البرنامج يتعين كذلك إيلاء الأهتمام اللازم للمقترحات التالية:
· إعادة طرح موضوع إحداث آلية عربية لتمويل التنمية الزراعية و/أو صندوق عربي لتمويل التنمية الزراعية والذي سبق للمنظمة أن طرحته في مناسبات عديدة وقامت بإعداد دراسة متكاملة عنه شملت تحديد الجهات المستفيدة، و مصادر التمويل، وطرق وآليات التمويل، والعون الفني والدعم المؤسسي و ضمان مخاطر الائتمان ومعايير الأهلية للاقتراض، و شروط التمويل.
· إعادة طرح إنشاء البرنامج العربي للغذاء والذي سبق وأن قدمتة المنظمة ويهدف إلى مساعدة ضحايا الكوارث الطبيعية والإلتزامات الغذائية الطارئة، وبخاصة في الدول الأكثر تضررًا.
· تحسين مناخ الإستثمار الزراعي في الدول العربية لتحفيز رأس المال العربي على الإستثمار في القطاع في الدول العربية ذات المقدرات الزراعية الكبيرة .
· العمل على منح إمتيازات وحوافز إستثمارية تشجيعية للمشروعات الزراعية الصغيرة والمتوسطة خاصة وأن صغار المزارعين
يشكلون الغالبية العظمى من المنتجين الزراعيين في الوطن العربي.
· تحديد نسبة يجب أن لا تقل عنها التمويلات الموجهة للقطاع الزراعي في المحافظ التمويلية الوطنية ومحافظ المؤسسات المالية العربية
· التركيز على ريادة الأعمال الزراعية لتحفيز الشباب على الدخول في الزراعة لتوسيع دائرة الإنتاج وتقليل نسب البطالة
· تطوير وتعزيز التجارة الزراعية البينية العربية للتقليل من اعتماد الوطن العربي في تأمين احتياجاته الغذائية على الأسواق العالمية، الأمر الذي ينطوي على خطورة بالغة في ظل المتغيرات والمستجدات العالمية.
· تصور وتنفيذ برامج تستهدف تعزيز قدرات المرأة الريفية العربية وترقية دورها في إنتاج وتحويل وتسويق الغذاء من خلال مدها بالوسائل اللازمة لذلك.
· هذا، وستظل الادارة العامة للمنظمة على تواصل وتشاور دائمين مع أصحاب المعالي وزراء الزراعة العرب لضمان متابعة مكثفة لتطور أوضاع الأمن الغذائي العربي، وتخطط حالياً لإتخاذ مجموعة من المبادرات سيتم الإعلان عنها في وقتها وستركز على متابعة ورصد تقلبات الأسواق العالمية للغذاء ومسالك الامداد به ومد الدول العربية بتلك المعلومات في الوقت المناسب ،مع الاصغاء الدائم لجهات القرار الزراعي في الدول العربية ،والتفاعل مع ما تتقدم به من طلبات المشورة والإسناد الفنيين، مع تكثيف التنسيق مع المنظمات الدولية والإقليمية النظيرة، وبوجه خاص مجموعة العشرين ومنظمة الامم المتحدة للأغذية والزراعة ولجنة الامم المتحدة لغرب اسيا “اسكوا“من أجل المزيد من التكامل وتضافر الجهود، حتى تتمكن الدول العربية من تحقيق أكبر استفادة ممكنة من جهود كل شركائها، ونصل بشعوبنا العربية الى بر الأمان بعد انقشاع غيوم هذا الظرف الاستثنائي.