شهر رمضان بين الآلام والآمال
بقلم الدكتور/ محمد العربي
يأتي شهر رمضان هذا العام في توقيت صعب على العالم الإسلامي بسبب جائحة فيروس كورونا، إذ فرضت الأزمة التباعد في الشهر الذي يعتبر المسلمون التواصل والتقارب فيه أمرا بأهمية العبادات. فهذا الشهر الذي يعتبره المسلمون فضيلا هو شهر التزاور الأسري والتجمع والتدبر في أمور الدين والعمل الخيري والصلاة إلا أن 1,8 مليار مسلم يقبلون على رمضان لم يشهدوا مثله من قبل في ضوء إغلاق المساجد وحظر التجول المفروض بسبب كورونا.
استقبال شهر رمضان
يُعَدّ شهر رمضان من أفضل شهور السنة عند الله؛ فهو شهر الصيام والقيام، وهو شهر عظيم للتزوُّد فيه من الخير، وهو الشهر الذي أنزل الله فيه القُرآن؛ لقوله -تعالى-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ)، وينقسم الناس في استقباله إلى صنفَين؛ صنفٌ يتّبعون فيه سُنّة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، وصحابته الكرام؛ باستقباله بالدعاء، والفرح بقدومه، والاستعداد للعبادة فيه، والتقرُّب إلى الله، وصنفٌ يتثاقلون منه ومن صيامه، ولا يفرحون بقدومه، ويعدّون أيّامه كأنّه ضيف ثقيل عليهم، ويفرحون بانتهاء الصيام فرحاً شديداً لزوال هذا الشهر، ولا يتّبعون فيه سُنّة النبيّ -عليه الصلاة والسلام-،ويُعَدّ الصيام من أركان الإسلام الخمس؛ فلا يكتمل إسلام العبد إلّا به؛ لقول النبيّ محمد -صلّى الله عليه وسلّم-: (بُنِيَ الإسْلامُ علَى خَمْسٍ، شَهادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسولُهُ، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، وحَجِّ البَيْتِ، وصَوْمِ رَمَضانَ).
فضائل شهر رمضان
يمتاز شهر رمضان بالكثير من الفضائل التي وردت في القرآن والسنّة، ومن هذه الفضائل ما يأتي: أنزل الله فيه القُرآن الكريم؛ إذ إنّ نزول القرآن فيه من أعظم الأحداث التي تُبيّن فضل هذا الشهر؛ فهو كلام الله الذي بيّن فيه أخبار الأُمم السابقة، والأحكام التي تضمن السعادة للإنسان في الدُّنيا والآخرة، قال -تعالى-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ).
يتضمّن ليلة القدر التي بيّن النبيّ أنّها خير من ألف شهر، ومن قامها لله مُحتسباً الأجر والثواب، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه؛ لقول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: (مَن قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، ومَن صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ) وقد سمّى الله ليلة القدر بهذا الاسم؛ لأنّ الله أنزل فيها القرآن الذي هو ذو قَدْر، على نبيّه مُحمّد ذي القَدْر، في ليلة ذات قَدْر، لأمّة ذات قَدْر، وقد بيّن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّها تكون في العشر الأواخر من رمضان، في الليالي الوتر منها؛ لقول النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (هي في شَهرِ رَمضانَ، فالتمِسوها في العَشْرِ الأَواخِرِ؛ فإنَّها وِترٌ: لَيلةُ إحدى وعِشرينَ، أو ثَلاثٍ وعِشرينَ، أو خَمسٍ وعِشرينَ، أو سَبعٍ وعِشرينَ، أو تِسعٍ وعِشرينَ). يغفر الله به الذنوب، ويُكفّر به الخطايا، وهو سبب لدخول الجنّة؛ لحديث النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- الذي رواه جابر بن عبدالله -رضي الله عنه-: (أنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: أرَأَيْتَ إذا صَلَّيْتُ الصَّلَواتِ المَكْتُوباتِ، وصُمْتُ رَمَضانَ، وأَحْلَلْتُ الحَلالَ، وحَرَّمْتُ الحَرامَ، ولَمْ أزِدْ علَى ذلكَ شيئًا، أأَدْخُلُ الجَنَّةَ؟ قالَ: نَعَمْ). تُفتَح فيه أبواب الجنّة، وتُغلَق أبواب النيران، وتُصفَّد الشياطين، وذلك كلّه من رحمة الله بالمؤمنين في هذا الشهر؛ لكثرة طاعتهم، وإقبالهم على الله بالأعمال الصالحة؛ لقول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: (إذا جاءَ رَمَضانُ فُتِّحَتْ أبْوابُ الجَنَّةِ، وغُلِّقَتْ أبْوابُ النَّارِ، وصُفِّدَتِ الشَّياطِينُ)، ومعنى تصفيد الله للشياطين: رَبطها وتقييدها بالأصفاد؛ لأنّها مصدر للذنوب والمعاصي، وما يُرى من ارتكاب بعض الناس للذنوب في شهر رمضان؛ فذلك أنّ الله -سبحانه وتعالى- يُصفّد مَرَدة الشياطين فقط، كما أنّ للمعاصي مصادر أُخرى، كالنفس، والهوى، والمعاصي تقلّ في رمضان عن غيره من أيّام السنة. يعتق الله فيه الناس من النيران؛ فالله -سبحانه وتعالى- يتفضّل على عباده الصائمين بأن يجعل منهم عُتقاء من النار في كُلّ يوم؛ والعِتق يكون بابعاد المُعتَق عن النار، وإدخاله إلى الجنّة. يُهيّئ الله الظروف المُناسبة لعباده؛ لأداء العبادة؛ وذلك بحبس الشياطين، وكثرة العِتق من النار في رمضان؛ لقول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: (ويُنادي منادٍ يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ ويا باغيَ الشَّرِّ أقصِرْ وله عُتقاءُ من النَّارِ وذلك كلَّ ليلةٍ). يستجيب الله من عباده الدعاء؛ فرمضان موطن إجابة للدعاء، وللصائم دعوة مُستجابة لا تُرَدّ
فضل العبادة في شهر رمضان
فضَّلَ الله شهر رمضان على باقي شهور السنة، ومن ذلك تفضيل العبادة فيه؛ فيُبشّر الله عباده الصائمين بالجنّة عند إكثارهم من الأعمال الصالحة؛ لأنّ الله يُضاعف لهم الحسنات في رمضان، كما يُعينهم الله بإضعاف كَيد الشيطان، وممّا يزيد في الأجر ومغفرة الذنوب صيام رمضان إيماناً بوجوبه، واحتساباً للأجر والثواب من الله، وتحرّياً لسُنّة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فيه،وممّا يزيد في أجر الصيام أنّ الله -تعالى- استثناه من تحديد أجرٍ له، بل جعل ثوابه مردوداً إليه؛ وذلك لأنّه سِرٌّ بين العبد وخالقه؛ فالعبد يترُك كُلّ شيء لأجل الله؛ ولهذا جعل الله ثوابه خاصّاً به، قال النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إلى سَبْعمِئَة ضِعْفٍ، قالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إلَّا الصَّوْمَ، فإنَّه لي وَأَنَا أَجْزِي به، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِن أَجْلِي)، ومُضاعَفة الحسنات في هذا الشهر يكون بالكَمّ والكَيف؛ فالله -سبحانه وتعالى- يُضاعف الحَسَنة أكثر من مُضاعفَتها في الأيّام الأخرى من غير أيّام رمضان، وتصبح بعشرة أمثالها، ويُضاعف عظمة أجرها، والعمرة فيه تعدل حجّة، أو حجّة مع النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-؛ لقوله: (عُمْرَةً في رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أوْ حَجَّةً مَعِي ).