الغاية الشيطانية
بقلم/ عبد الرحمن علي البنفلاح
قبل أن يخلق الله تعالى آدم (عليه السلام) ويجعله خليفة في الأرض خلق الملائكة والجن، فكان للملائكة طبيعة خاصة إذ خلقهم من نور، وخلق الجن من نار، وخلق آدم وذريته من طين، ثم أطلق قدرته سبحانه في الملائكة، فجعلهم مجبرين على الطاعة، ومجبرين على ترك المعصية، فقال سبحانه: «يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون» (التحريم: 6)، إنهم لا يعصون الله تعالى جبرا، ويفعلون ما يؤمرون به أيضا جبرا، أما الجن فهم مختارون فيما يفعلون وفيما يعصون، وكذلك البشر، وقبل أن يخلق الله تعالى آدم ويفوضه في أمر عمارة الأرض ترقى إبليس في الطاعة حتى بلغ منزلة تفوق منزلة الملائكة، حتى أنه وصف بأنه طاووس الملائكة! ولهذا كان إبليس في معية الملائكة حين أمرهم الله تعالى بالسجود لآدم، وظن بعض الناس أنه منهم وهو ليس كذلك، كما التبس على بعض الكُتاب في أن السجود لآدم يتنافى مع الوحدانية ورأوا في امتناع إبليس عن السجود منتهى التوحيد، ومن هؤلاء الكُتاب الكاتب اللبناني صادق جلال العظم في كتابه «نقد الفكر الديني»، وفاته أن هناك فرقا بين سجود العبادة وهذا لله وحده سبحانه لا يشاركه فيه أحد من خلقه، وسجود التكريم الذي أمر به الله تعالى ملائكته لآدم (راجع كتاب «الذين يحرثون في البحر» تأليف: عبدالرحمن علي البنفلاح).
إذن فقد كان السجود لآدم تكريما له، واعترافا بفضله على باقي المخلوقات.
نجح إبليس في جميع المواد المقررة عليه، لكنه رسب في مادة واحدة لم تكن مقررة عليه قبل خلق آدم (عليه السلام)، وهذه المادة هي مادة «التواضع» حين قال لمولاه سبحانه في سبب امتناعه عن السجود لآدم (عليه السلام) كما فعل الملائكة أجمعون: «قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأٍ مسنون» (سورة الحجر: 33). لقد فات إبليس أن التفاضل بين المخلوقات ليست بألوانهم ولا بأحسابهم ولكن بالمهمات التي يُختارون لها، فآدم (عليه السلام) فضله الله تعالى على باقي المخلوقات لأن الله سبحانه اصطفاه لمهمة لا يصلح لها إلا هو، هي الخلافة في الأرض، وحمل راية الخير، والدفاع عن الحق، لهذا عَرَّفَ الملائكة بمكانة آدم (عليه السلام) عنده سبحانه، وأنه يَفْضُل الملائكة والجن بما زوده من العلم والمعارف الكثيرة، قال سبحانه: «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون» (البقرة: 30).
ومن أجل إعداد آدم (عليه السلام) لهذه المهمة العظيمة التي اختاره لها واختارها له جهزه بكل ما يحتاج إليه في إدارة شؤون الأرض، قال تعالى: «وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (33)» (البقرة).
وفي هذه الآيات الكريمات لطائف، منها: أن الله تعالى أجرى امتحانا للملائكة حين طلب منهم أن ينبئونه بالأسماء التي علمها لآدم، فلما اعترفوا بجهلهم لها، وأن علمهم يقف عند حد ما علموه من مولاهم سبحانه، ولا يتجاوزه، أجرى لآدم نفس الامتحان وطلب منه أن يذكر هذه الأسماء، وكان يكفي أن يخبرهم مولاهم سبحانه أن آدم يعرف هذه الأسماء، وسوف يقر الجميع بذلك لأن الذي أخبر بذلك هو الله تعالى، لكنه سبحانه أراد بهذا أن يطرح عليه نفس السؤال الذي طرحه على الملائكة من دون أن يوحي له بالإجابة، أيضا أراد أن يستوثق من حفظ آدم واستذكاره لهذه الأسماء والعلوم التي سوف يحتاج إليها في شؤون الخلافة في الأرض.
إذن فقد قدم الحق سبحانه وتعالى حيثيات استحقاق آدم (عليه السلام) لهذه المهمة العظيمة، والمكانة التي اختاره الله تعالى لها.
لقد سقط إبليس في الامتحان، ونجح آدم في جميع المواد وبالأخص مادة «التواضع» التي سقط فيها إبليس، فأنزله مولاه سبحانه من المكانة التي كان فيها إلى الدرك الأسفل من أجل ذلك أخذ العهد على نفسه أن يضل أبناء آدم، وألا يدع فرصة مواتية إلا انتهزها للنيل من البشر جميعا، من أجل ذلك سأل الله تعالى أن يمهله ليكون آخر من يغادر الحياة الدنيا، قال سبحانه وتعالى: «قال رب أنظرني إلى يوم يبعثون (36) قال فإنك من المنظرين (37) إلى يوم الوقت المعلوم (38) قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين (39) إلا عبادك منهم المخلصين (40) قال هذا صراط عليّ مستقيم (41) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (42)» (الحجر).
هذه هي الغاية الشيطانية التي آلى إبليس على نفسه إلا أن يبلغها، وحتى يستطيع تحقيق ذلك سأل ربه سبحانه أن يمهله، فيكون آخر من يغادر هذه الحياة لعله يحقق ما يتمناه، ويسعى إلى بلوغه انتقاما من آدم (عليه السلام) وذريته.