إثيوبيا ومصر علاقات متأرجحة ومصالح متضاربة
بقلم/ وليد أحمد وفيق
كاتب سياسي
منذ آلاف السنين والعلاقات المصرية الإثيوبية ترتبط برابط وجودي يتمثل في نهر النيل، الذي يربط بين البلدين بوشائج تاريخية قديمة قدم تاريخ وحضارة مصر منذ نشأتها، لكن لم تبرز الخلافات بينهما يوما حول النهر مثلما برزت خلال السنوات الماضية، وعلى الرغم من أن قدماء المصريين أولوا النيل الأهمية القصوى في حضارتهم وأقاموا له وعليه الاحتفالات والطقوس الدينية، التي تصل إلى حد قدسية النهر في مواسم الفيضان، وتقديم القرابين له في مواسم الشح والجفاف، إلا أن الحياة استمرت على ضفافه في صورة حضارة صدرتها مصر للعالم واثرت بها التاريخ الإنساني، وفي العصر الحديث امتدت العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين مصر وإثيوبيا إلى ما يناهز أو يقارب المائة عام
هي عمر العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإثيوبيا، كان دعم المصالح المشتركة من أهم السمات المميزة لها، ورغم وجود خلافات حالية بشأن استكمال بناء سد النهضة، إلا أن الرغبة فى الحوار وتحقيق التكامل بين البلدين لا تزال تسيطر على الأجواء .
العلاقات السياسية والدبلوماسية
قبل أكثر من تسعة عقود، بدأت العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإثيوبيا فى عام 1930، وفى عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي كان مهتما بالعلاقات مع القارة الأفريقية إلى أقصى حد باعتبار افريقيا إحدى الدوائر الثلاث المكونة للسياسة المصرية، وكان قد ذكر هذا في كتابه المعروف “فلسفة الثورة” وفي عهده كان أن طالبت حركة تحرير إريتريا الاستقلال عن إثيوبيا، وكان موقف مصر فى تلك الفترة هو احترام وتأييد قرار الأمم المتحدة الصادر فى ديسمبر 1950 والخاص بضم إريتريا إلى إثيوبيا فى اتحاد فيدرالى، ولأن عبد الناصر كان يعى جيدا أهمية إفريقيا، فكانت العلاقات المصرية الإثيوبية فى أوج قمتها فى عهد عبد الناصر والإمبراطور الإثيوبى هيلاسلاسى، حيث كان يدرك أهمية منابع مياه النيل لمصر .
ومنذ بدء العلاقات بين البلدين وقعت مصر وإثيوبيا أكثر من 30 مذكرة تفاهم واتفاقية ، وتأتي أبرز الاتفاقيات في تسيير خطوط جوية منتظمة عام 1952، واتفاق التجارة عام 1959، اتفاق التعاون الاقتصادى والعلمى والثقافي والفنى عام 1976، واتفاق بين البنك المركزى المصري والبنك الأهلى الإثيوبى عام 1976، ومعاهدة لتسوية المنازعات عام 1986، بالإضافة إلى عشرات من اتفاقيات التعاون في مجالات الثقافة والفنون والتعليم والصحة والسياحة والبنية التحتية بين البلدين، وكانت هذه الاتفاقيات تمثل وجها من أوجه القوة الناعمة لمصر والنفوذ السياسي لها في افريقيا، الى جانب دعم حركات التحرر من الاستعمار الغربي في الدول الأفريقية إبان عهد الرئيس عبد الناصر، ولكن حدث أن تراجع الدور المصري في افريقيا بعد وفاة عبد الناصر وتراجع النفوذ السياسي المصري فيها، خاصة في عهدي الرئيس الراحل أنور السادات والرئيس الراحل حسني مبارك حيث ضعفت العلاقات مع إثيوبيا باعتبارها جزءا من التراجع المصري في افريقيا .
بداية الخلافات بين البلدين
ظهر التوتر فى العلاقات المصرية الإثيوبية في سبعينيات القرن الماضي بسبب إريتريا، بعد دعم الخرطوم لحركة تحرير إريتريا، ومساندة إثيوبيا لحركات تحرير جنوب السودان، وأعلن الرئيس الراحل محمد أنور السادات وقوفه إلى جانب السودان ما كان له التأثير السلبى على العلاقات المصرية الإثيوبية .
وبدأ ملف المياه يدخل دائرة التوترات بين القاهرة وأديس أبابا بعد إعلان السادات فى 1979، مد مياه النيل لرى 35 ألف فدان فى سيناء، وأعلنت إثيوبيا وقتها أن هذا المشروع ضد مصالحها، وتقدمت بشكوى إلى منظمة الوحدة الإفريقية تتهم فيها مصر بإساءة استخدام مياه النيل.
ثم تصاعدت الأمور بتهديد الرئيس الإثيوبى “منجستو” بإمكان تحويل مجرى نهر النيل، ومن جانبه وجه الرئيس السادات خطابا حاد اللهجة إلى إثيوبيا، وأعلن أن مياه النيل خط أحمر مرتبط بالأمن القومى المصرى ثم انتهى عصر الرئيس السادات بغيابه بسبب اغتياله .
جاء عصر الرئيس السابق محمد حسنى مبارك، ليشهد بداية مرحلة جديدة من العلاقات، وخفت حدة توتر الخطاب السياسى بين البلدين، وبدأت تحل محلها انفراجة فى العلاقات المصرية الإثيوبية فى صيغة التعاون والتفاهم فى مختلف المجالات، ثم توقفت أعمال المجلس المصرى الإثيوبى 17 عاما كاملة، بعد محاولة اغتيال مبارك فى أديس أبابا عام 1995.
عقب ثورة 25 يناير 2011 أخذت العلاقات بين مصر وإثيوبيا محورا مختلفا، بعد شروع إثيوبيا في بناء سد النهضة، متجاوزة بذلك للاتفاقيات التي تنص على وجوب موافقة مصر على بناء اي سد على النيل الازرق، وهو الرافد الأهم لنهر النيل وتصرفت اثيوبيا بشكل احادي، وعرضت الاتفاقية الإطارية بين دول حوض النيل” اتفاقية عنتيبي” التي تعترض عليها مصر والسودان على البرلمان الإثيوبي لإقرارها .
بداية جديدة للعلاقات الثنائية بين البلدين
فى عهد الرئيس عبد الفتاح السيسى، تسعى مصر لتحويل العلاقات المصرية الإثيوبية إلى علاقات تعاون وتكامل، بعد أن تجمدت لسنوات فى إطار الصراع والتشاحن، وذلك على خلفية أزمة ” سد النهضة ” وسعي أديس أبابا لإنشاء سدود آخرى.
وضمن مساعي مصر لتعزيز التعاون في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والصحية والعسكرية، صدر بيان مشترك بين البلدين في 2014 وضع إطارا للتعاون المشترك يقوم على احترام مبادئ الحوار والتعاون كأساس لتحقيق المكاسب المشتركة، وتجنب الإضرار ببعضهم البعض، أولوية إقامة مشروعات إقليمية لتنمية الموارد المائية لسد الطلب المتزايد على المياه ومواجهة نقص المياه، احترام مبادئ القانون الدولى، الاستئناف الفورى لعمل اللجنة الثلاثية حول سد النهضة بهدف تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية، واحترام نتائج الدراسات المزمع إجراؤها خلال مختلف مراحل مشروع السد، تلتزم الحكومة الإثيوبية بتجنب أى ضرر محتمل من سد النهضة على استخدامات مصر من المياه، تلتزم الحكومة المصرية بالحوار البناء مع إثيوبيا، والذى يأخذ احتياجاتها التنموية وتطلعات شعب إثيوبيا بعين الاعتبار، الدولتان تلتزمان بالعمل فى إطار اللجنة الثلاثية بحسن النية وفى إطار التوافق .
اتفاق إعلان المبادىء
وفي مارس 2015 وقعت مصر وإثيوبيا والسودان اتفاق إعلان المبادئ في الخرطوم، تقديرا للاحتياج لمواردهم المائية، وإدراكا لأهمية نهر النيل كمصدر الحياة ومصدر حيوى لتنمية شعوب مصر وإثيوبيا والسودان، وتضمن 10 بنود وهى التعاون، التنمية والتكامل الإقليمى والاستدامة، عدم التسبب فى ضرر ذى شأن، الاستخدام المنصف والمناسب، التعاون فى الملء الأول وإدارة السد، بناء الثقة، تبادل المعلومات والبيانات، أمان السد، السيادة ووحدة إقليم الدولة، التسوية السلمية للمنازعات.
العلاقات التجارية والاستثمارية
بالنسبة للاستثمارات المصرية الإثيوبية المشتركة والعلاقات التجارية بينهما التي حصلت على تصاريح حكومية منذ عام 1992 وحتى الآن بلغت نحو 58 مشروعا، باستثمارات تصل إلى نحو 35 مليار دولار ساهمت مصر فيها بالجزء الأكبر حيث تستورد مصر من اثيوبيا اللحوم المبردة والابقار الحية، واستثمرت مصر في اثيوبيا في مجالات الصحة والتعليم والبنى التحتية وحفر الآبار في المناطق الجافة في اثيوبيا، وتعاونت شركات مثل المقاولون العرب واوراسكوم مع الحكومات الإثيوبية المتعاقبة .
علاقات ثقافية ودينية قديمة
الخلفية التاريخية الدينية المشتركة تعد نموذجا للروابط التي تجمع بين مصر وإثيوبيا، والتي تعود إلى أكثر من ١٠٠٠ عام، وهناك تراث روحي يتمثل في جانبه المسيحي بعلاقة الكنيستين المصرية والإثيوبية، كما يتمثل في جانبه الإسلامي منذ القدم حين استقبلت الحبشة المهاجرين الأوائل في عهد الرسول محمد صلي الله عليه وسلم، وهناك أيضا علاقات دينية قوية بين كنيسة الإسكندرية المصرية وكنيسة أثيوبيا منذ اعتنقت إثيوبيا المسيحية، وكان الأساقفة الاثيوبيون يأتون من إثيوبيا ويرسمون من كنيسة الإسكندرية حتى بداية ستينيات القرن العشرين .
وتعد الزيارة الأخيرة للأنبا متياس الأول بطريرك أثيوبيا إلى مصر فى يناير 2015 هي الزيارة الأولى، التي يقوم بها بطريرك إثيوبيا خارج بلاده، منذ جلوسه على كرسي الكنيسة في مارس 2013 حيث تعتبر هذه الزيارة أحد أهم الخطوات في تقوية العلاقات بين الكنيسة المصرية والإثيوبية .
نجحت السياسة المصرية الجديدة التى وضع أسسها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى تحويل العلاقات المصرية الإثيوبية إلى علاقات تعاون وانتفاع بعد أن تجمدت لسنوات في إطار الصراع والتشاحن، وذلك على خلفية سد النهضة الإثيوبي الجاري إنشاؤه الآن .
في هذا الإطار وضع الرئيس عبد الفتاح السيسي أسسا جديدة للتوجهات المصرية في إفريقيا، على أساس استعادة مصر لريادتها الإفريقية في كل المجالات السياسية والاقتصادية والصحية والعسكرية .
ويتضمن سجل العلاقة الإثيوبية المصرية العديد من العوامل المشتركة والمتباينة ضمن العامل الجغرافي للبلدين وتطور الواقع السياسي المحلي والإقليمي، حيث تدفع هذه العوامل بحكم توازنات معينة إلى تقارب، هذا إلى جانب إرث التعايش إلانساني الضارب بجذوره في تاريخ الحضارتين الفرعونية والحبشية .
ولأن دعم العلاقات بين دول حوض النيل عامة، وبين مصر وإثيوبيا خاصة على المستويات الحكومية والبرلمانية ومؤسسات المجتمع المدني مسألة ضرورية، اقترح بعض الخبراء تشكيل لجنة سياسية مشتركة على مستوى رؤساء الحكومات لإقامة جسور الحوار المستمر، وتبادل الرأي والتفاوض حول الأزمات المحتملة، بشكل استباقى يسمح بتجاوز كل ما من شأنه أن يعيق مسيرة العلاقات بين الدولتين .
وطرحت هذه الرؤية لتصبح مصطلحات التعاون بين دول حوض النيل والتنمية المستدامة والتفاهم المشترك بين دول حوض النيل هي السائدة، ويمكن عرض بعض الأدلة والبراهين المؤيدة لضرورة النظرة بشكل إيجابي للعلاقات السياسية بين البلدين .
وحرصت القيادة السياسية في البلدين إلى الاحتكام إلى العقل وتجنب النزاعات والصدامات بين الدولتين، حتى لا يؤدي ذلك إلى عملية من الفوضى وعدم الاستقرار الداخلي، خصوصا أن البلدين مرا بحالة انتقالية وتنشدان الاستقرار بشكل كامل، وتجاوز خلافات الماضي وفتح صفحة جديدة للعلاقات بين البلدين أساسها المصالح المشتركة والتفاهم، واتضح ذلك من خلال اللقاءات بين المسؤولين والقيادات في البلدين، وفتح مجال أكبر للعلاقات التجارية والاقتصادية، وفتح مجال أيضا للاستثمارات بشكل أكبر بين البلدين، وعدم اختزال العلاقات بين البلدين في ملف المياه فقط أو حتى سد النهضة .
تقدم مصر من خلال الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية العديد من الدورات والمنح التدريبية إلى إثيوبيا في مجالات متنوعة، فضلا عن عدد آخر من المنح التي تقدمها الوزارات والجهات المصرية المختلفة بالتنسيق مع وزارة الخارجية، ومن بينها وزارتا الكهرباء، والموارد المائية والري.
تقوم الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية بإيفاد قوافل طبية من مصر إلى أثيوبيا بشكل منتظم، كما تم افتتاح وحدة مصرية أثيوبية لمناظير الجهاز الهضمي وأمراض الكبد في أديس أبابا، ووحدة أخرى في مدينة بحر دار، بالإضافة إلى وحدة جديدة للغسيل الكلوي وجراحات المسالك البولية في أديس أبابا .
تم افتتاح المركز المصري الإثيوبي لأمراض الكلى والغسيل الكلوي في أغسطس 2013 بمشاركة وزير الصحة الإثيوبي، ورئيس جامعة ومستشفى سان بول، وتضم الوحدة ست وحدات غسيل كلوي ووحدة لمعالجة المياه .
هذا هو شكل العلاقات المصرية الاثيوبية في الماضي والحاضر غير أن مستوى العلاقات في المستقبل يظل ضبابيا بناءا على الموقف الاثيوبي الاخير في ملف سد النهضة وتعنت اثيوبيا في الوصول إلى حل عادل ومنصف حول قضية السد ومياه النيل، مما يلقي بأسئلة ثقيلة وغامضة حول طبيعة العلاقات التي ستحكم البلدين في المستقبل القريب، وحول أسس التعاون المرجوة لشكل العلاقة المستقبلية للأجيال القادمة فمصر بطبيعة الحال لن تقبل بأي اتفاق يهدد وجودها نتيجة اي نقص في مياه النيل، وإثيوبيا كما تقول لن تقبل بأي اتفاق يحد من سيطرتها على النيل متناسية أنه نهر عابر للحدود ويخضع لقوانين الأنهار الدولية المشتركة، وبين هذا الموقف وذاك يظل النيل سؤال شائك في علاقات البلدين .