والتأم الجرح (3)
قصة الكاتب الكبير/ محمد الأمين البس
(3)
أيقن بكر أن الله سبحانه وتعالى لم يقسم له الزواج بابنة عمه إلا لحكمة بالغة، وبدأ يجهز حقيبة سفره ليتوجه إلى القاهرة بالأوراق المطلوبة لتسلم عمله معيداً بقسم العمارة بالكلية، وإذا بصديق قديم لوالده يعمل بالسعودية يتصل به ليبلغه بوجود وظيفة شاغرة بإحدى كليات الهندسة وما عليه إلا أن يجهز بعض الأوراق مع الكشف الطبي.
وما كاد يفرغ من المكالمة الهاتفية حتي جرى متهللًا نحو أمه، يقول وهو يلهث من التعب:
– الله يبارك في عمرك يا غالية، كل هذا الخير وكل هذا التوفيق من الله ببركة دعواتك وما غرسه أبي رحمه الله من أعمال الخير في حياته.
– يا بكر أنت تستأهل كل خير، وربنا يتمها لك على خير يا ولدي.
– لقد حجزت للسفر إلى القاهرة غداً كي أستلم وظيفتي بالكلية، وفي الوقت نفسه أجهز الأورا المطلوبة للعمل في السعودية.
– بنا يوفقك لكل خير ويجعل لك في كل خطوة سلامة.
كان بكر شديد الحرص على توديع صديقه الأستاذ رفعت بدوي الذي وقف إلى جانبه وكان خير سند له طول سنوات الدراسة، ولذلك توجه إلى شبرا والتقاه، ثم ذهب إلى جامعة القاهرة بالجيزة وقدم الأوراق المطلوبة كما حصل على الأوراق الرسمية اللازمة لوظيفته بالمملكة العربية السعودية، وسرعان ما عاد إلى قريته لقضاء عدة أيام مع أمه وشقيقتيه حتى تصله تأشيرة السفر، وأثناء مأدبة غداء داعبته أمه قائلة:
– كل ما أرجوه يا بني ألا تدع ضياع حبيبة منك يزهدك في فكرة الزواج.. أمك محتاجة تفرح.. وأكبر فرحة لما أشوفك وأنت عريس.
حرَّكت هذه الكلمات مشاعر متباينة عند بكر، وأيقظت ما بداخله من أحزان، ونكأت جرحه، ومن جهة أخرى رَقَّ قلبَه لأمه التي تتوق لفرحة طال غيابها.
ولاحقته أمه بهذا الحديث، وواصلت تكرار نصائحها:
– أنت ألف واحدة تتمناك..
واشتركت أخته حسنية في الحوار:
– يعني يا بكر، لا توجد واحدة من زميلاتك في الكلية قد أعجبتك ولفتت نظرك؟
– يا حسنية.. لقد تعرفت على عدد من البنات ومن عائلات محترمة، لكن حبيبة في قلبي، وطبيعي أن لا يسع قلبي لأى واحدة أخرى.
– هذا الكلام كان يجوز قبل تسرع عمك وعملته السوداء، والواقع يقول إن حبيبة تزوجت من صبري أبو طه فلازم تشوف نفسك يا أخي هذه هي إرادة الله وهذه هي سنة الحياة.
واختلى بكر بنفسه، وتذكر نهى زميلته في نفس السكشن وقد كانت معجبة به حتى أنها دعته لبيتها في حي الزيتون بالقاهرة للمذاكرة معًا، وهناك تعرَّف على والدتها الأرملة وحرصت أيضاً على أن يتعرف على شقيقها توفيق الذي يقيم مع زوجته في الجيزة بالقرب من الجامع.
وتذكر كم حرصت على أن يدخل بيت شقيقتها الكبرى زوجة الدكتور فؤاد حمدي نقيب الأطباء ليدرس لأولادها.
ودخلت عليه أمه وهو في هذه الذكريات الجميلة، وفاجأته بسؤالها:
– يعني سألتك حسنية ولم ترد عليها؟
– سألتني عن ماذا يا أمي؟
– عن زميلة أعجبتك وأنت في الكلية.
– وأنا أجبتها، وأكرر إجابتي كي يرتاح بالكم.. حبيبة تملأ قلبي وستظل تملأه حتى أموت.. هي توأم روحي يا أمي، وهذه شئون أرواح، أي لا دخل لزواجها أو زواجي بشئون الروح.. سيظل حبها يملأ جوانحي حتى بعد زواجها.
– وأنت على ثقة أنها تبادلك نفس الشعور حتى بعد زواجها؟
– دعيني أسألك أنت يا حاجة درية.. أما زلت على حبك لأبي حتى بعد وفاته؟
– وحق الله يا ولدي لا يعينني على مشاق تربيتكم إلا هذا الحب الصادق له، الله يرحمه.
– إذن، تأكدي أن حبيبة عندها الآن نفسك شعورك تجاه والدي.
وخبطت على صدرها وشهقت:
– ألا يُعد ذلك خيانة يا ولدي؟
– الخيانة يا حبيبتي تنشأ من أغراض النفس والجسد لا الروح.
– حيرتني معك.. خلاصة القول: ستتزوج أم لا؟
– حاضر يا أم ، أنهي أولا استلام الوظيفة في السعودية وبعدها نفكر يا غالية.
مرَّت أيام، وجاءت التأشيرة، وأسرع بكر لتسلمها من السفارة، وفي خلال يومين كان في الدمام يعمل بوظيفة معيد بكلية العمارة والتخطيط .