لقاء
قصة بقلم/ د. عزة شبل
أغمض عينيه وأخرج زفيرًا عميقًا قويًّا ببطء، وهو يفكر أين عساه أن يجدها هذه المرة، لقد فتَّش عنها كثيرًا، وفي كل مرة يرجع خالي اليدين، لكنه لم يكن لييأس أبدًا، وظل يحاول. سمع مواء القطة بجواره، فنظر إليها، ربما تريد أن تخبره بشيء، سنحت له خاطرة، ربما نهرتها أحيانًا، أوعاقبتها لشقاوتها ذات يوم، وعلى الرغم من نظرات القطة الحانية، فإنه لم يستبعد هذا الاحتمال، فقرر أن يذهب إليها في محبسها، لابد أن أراها، يدفعني شوقي إليها، وتدفعني ذكرياتي معها، أين أنت يا أبا العلاء لتأخذني معك، وفي الوقت الذي كان يستعد فيه لرحلة البحث عنها، كانت هي أسبقُ بخطواتٍ متلاحقة، تتغيا السبلَ وتقطع المسافاتِ نحوه.
نظرتْ إليه، وجدتْه كما هو لم يتغير منه شيء، على الرغم من مرور السنوات، رجل أربعيني، ترتسم على وجهه ابتسامةٌ حانية، بعضُ خصل الشعر البيضاء تسترقُ النظرَ من بين شعره البني الناعم المصبوغ، ما زال قوي البنيان، كم مرة جلستُ سعيدة أشاهدُه يلعب كرة القدم مع أبنائنا، وهو يراوغهم مبتسمًا… أب جميل حقًّا… تحسدني زميلاتي في العمل عليه عندما يشاهدنه يأتي لاصطحابي للبيت بعد انتهاء العمل… قطعَ المسافات، لن أعود هذه المرة بدونها، نعم. سأذهب إليها، وحتمًا سأجدُها واصطحبُها معي، قلبي لا يعرف غيرها، منذ أن رأيتها في الجامعة زهرةً بنفسجية، شعرُها المنسدل في رقةٍ وعذوبة، وعيناها الساحرتان جذبتني إليها، وضحكاتُها البريئة صوتًا يناديني، يهديني إليها.
سأجدُها حتمًا، فكيف لي أن أترك قلبي…مرت عيناه تتحسسُ الطريقَ، ينظرُ هنا وهناك دون جدوى، ربما خدعتني القطة بنظرتها، فلطالما نهرتني عن الجلوس بجوارها ونحن نشاهد التلفاز، لتجلس هي في أحضانها، تعبثُ بشعرها الكستنائي، وتربتُ على رأسها، فتغمض عيناها على ابتسامة مداعبة. أخذ نفسًا عميقًا وأغمض عينيه مفكرًا، فوجدها أمامه، قفزت يداه تعانقها، أسند رأسه على كتفها، وصمت القلب عن التفكير في سؤالها أين كانت، يكفيه أنها عادت، ربما تغير صوتُها بعض الشيء؛ لمرور وقت طويل على لقائهما، لكن صورتها كما هي، الابتسامة، الضحكة، لون البشرة، الشعر المنسدل، طريقة المشية، قلبي يحدثني أنها علمتْ بأنني بحثتُ عنها في كلِّ مكان، وقطعتُ كلَّ السبلِ للقائِها.. وهي بين ذراعيه في نشوة، يسري في عروقها عطرُه، وتذكرُ قميصَه الأبيض في أولِّ لقاءٍ بينَهما، واضعًا يده في جيبه في كل مرة بثقة وخيلاء وهو يشرحُ الدروس، وكم مرةٍ يتصنعُ سؤالَها ليُسمع قلبَه صوتَها الرقيق..
– هل فهمتِ ما قلتُه؟
وهي تهزُ رأسَها بالموافقة، دون أن تنطق بكلمةٍ، فيعاودُ السؤال بطريقة أخرى علَّها تجيبُه.. تحرِّكُ رأسَها لأعلى وأسفل مبتسمةً، دون أن يسمعَ صوتَها.. يزدادُ قلبُهُ لهفةً لها، وتعلقًا بفتاتِه الخجولة.
تسابقتْ كلماتُها، وهي تحكي له كل شيء، لم تكن تعرفُ من أين تبدأ، لكن حديثَهما كان سريعًا مرتبكًا، بين ذكريات الماضي، وآمال المستقبل التي يريدان أن يحققاها، لقد أصبحت الآن أغنى، وأجمل، سنعيش في بيتنا الجديد، سنسافر بعيدًا عن الأعين، أنا وأنتَ، تصحبُنا الحياةُ، ابتسمَ لها مداعبًا، يسمِعُها شِعرَهُ العذب الذي اعتادتْه على أنغامِ الموسيقى، وجاءت القطة كعادتِها للجلوس معهما، لكنها أبتْ، وظلت تموء بصوت خافت، إلى أن علا صوتُها، فتعلقتْ عيناه بضوء الشرفة، رآها في خيلاء ترقص أمامه، رقصًا بديعًا، يتثنى قدُّها على يديه، تلامس حنايا قلبه الغض بخفةٍ وعذوبة، حدَّق فيها مندهشًا، فزوجته لم تكن تجيد الرقص..
التفتَ إلى صوتٍ يناديه في الغرفة المجاورة، نظرَ إلى الساعة، فوجدها الثانية عشرة موعد الدواء، مشى مسرعًا نحو الغرفة، محضرًا الدواء، تنامُ على شفتيه كلمات خافتة، نظرتْ إليه مبتسمةً، داعية الله أن يحفظَه ببركةِ دعائِها له، لكنها سرعان ما شاحت بوجهِها إلى النافذة تنظر نحو السماء، وقد تلبدت بالغيوم، وأوشك السحاب أن يمطر.. وما زالتْ يدُهُ قابضةً عليها، تخاف أن تفلتَها، بعد أن عانت الكثير لِلُقياها، وفتَّش كلَّ الدروب للبحثِ عنها.
عانقَتْه شفتاها، بعد لقاءٍ طويل، ظلَّتْ عيناها تحدِّقُ في قسماتِه، وراحت الكلماتُ تتسابقُ في البوح له، ودقاتُ قلبِه تتابعُها في كلِ شاردةٍ وواردة، يتذكر أحيانًا، وينسى أحيانًا أخرى، وتغتفرُ له النسيانَ، فقد مضى وقت طويل على لقائهما. اصطحَبَها معه لغرفة ابنتِهما ليُعدَّا معًا طقوسَ حفلةِ التخرج غدًا.. أخرجَ لها الفستانَ البنفسجي الذي تحبُّ دومًا أن ترتديه، مع عقدها الفضي، وكانت هي الأخرى قد أعدَّتْ له قميصَه الأبيض، ووضعتْ بعضًا من عطرها المفضَّل عليه، نظرت الابنة إلى صورتِهما المعلَّقة على الحائط وقد انفكَّ منها ذلك الشريط الأسود المائل، وانسحب ضوؤه على الغرفة، فاغمضتْ عينيها، ولم تستيقظْ إلا على صوتِ جدَّتِها تدعُوها للاستعدادِ للحفل.