والتأم الجرح
قصة الكاتب الكبير/ محمد الأمين البس
(1)
لم تشغلها دنياها العامرة بالنشاط والحنو على الضعفاء والمعوزين من أداء فريضة الحج كل عام وبخاصة بعد وفاة زوجها التاجر الثري الذي ترك لها ابنا وحيدا تزوج من أمريكية من أصل مصري وأقام بكندا.
وفي أول حجة لها وبعد أداء مناسك الطواف اصطدمت به من غير قصد وهي مندفعة للخارج فكاد يفقد توازنه لولا أن أمسكت بثياب إحرامه، وهنا تبينت ملامحه أكثر وأكثر فإذا هو ابن عمها، وفجأة أفلت منها بفعل زحام الحجيج، فظلت تنادي: بكر بكر بكر، ولكنها عادت إلى نفسها وقالت: كيف لبكر أن يحج وهو يقضي الآن فترة نقاهة عقب عملية أجراها قبل أن تسافر؟
وفي حجرتها بالفندق اتصلت به لتبشره أنه يحج الآن معها، فلم يصدق وأنشد قائلا:
أحبيبةٌ مهلًا بعضَ هذا التَّدلل.. وإن كنت قد أزمعت تبشيري فأجملي
فردّت عليه:
لا يغرّك مني أن حبك في دمي.. وأنك مهما تأمرني تجدني
لكن.. ما قصة حبيبة وبكر، وكيف كانت البداية؟
استيقظت وهي طفلة على ناعي عمها الأستاذ صالح الذي مات فجأة بدون مرض أو مقدمات وترك ثلاثة أكبرهم بكر وكان في العاشرة من عمره.
وَلَكَمْ عانت عمتها “درية” زوجة عمها صالح لكي تنفق على أبنائها من معاش هزيل مع مبلغ زهيد تجمع قروشه من أجر حياكة بعض الملابس خلال ساعة أو ساعتين تسترقهما من وقتها المثقل بالأعباء. كل ذلك وهي تحيطهم بجناحيها وتتحمل من أجل تربيتهم ما يفوق طاقة البشر.
أدركت حبيبة أكثر من أي وقت مضى كيف أن أباها عبد المولى أهمل أبناء أخيه وقصَّر في حق رعايتهم وهو صاحب عدة متاجر للحديد ومواد البناء ولديه شركة مقاولات كبيرة ويُعَد واحداً من أثرياء البلدة .
لكن الطعنة التي أدمت قلبها هي رفض والدها ارتباط بكر بها بحجة أنه رفض العمل معه وفضَّل استكمال دراسته.
وكان بكر قد أنهى المرحلة الإعدادية وسافر إلى المدينة حيث يقطن عمه وحيث يدرس بالمدرسة الثانوية.
وبقدر سعادة أم بكر بنجاح ابنها البكر في الإعدادية بقدر ما زادت همومها.
كان عليها أن تختار بين أمرين كليهما مر المذاق صعب الإحتمال، فإما أن يقيم بكر بتلك المدينة بعيداً عنها وإما أن يسافر كل يوم.
كانت فكرة إقامة ابنها في المدينة فكرة يرتجف منها قلبها، وإذا اختارت أن يسافر يومياً فكيف تأمن عليه من أخطار السفر ذهاباً وعودة؟ وكيف له أن يتحمل مشقة السفر كل يوم ؟ ثم كيف تتحمل غياب بكرها عن عينيها لو أقام بالمدينة ؟ وكيف تطيق وخزات قلقها اليومي عليه حتى يعود سالمًا من المدينة لواختارت له السفر؟!!
ظلت الأم نهبًا لحيرتها، يعصف بها القلق ولا يستقر لها حال حتى دخل عليها بكر ذات يوم ومعه زميله جمعة ابن بسيوني الخياط ليعرضا عليها فكرة الإقامة بالمدينة في غرفة يستأجرونها ومعهما زميلهما أحمد صحصاح، على أن يحضروا كل خميس عقب اليوم الدراسي لزيارة أسرهم والتزود بما يعينهم على المعيشة طول الأسبوع.
راقت الفكرة لأم بكر، ورأت أنها أخف وطأة من التعرض لمخاطر السفر كل يوم واطمأن قلبها لأنها تعرف عن قرب أسرتا جمعة وأحمد.
أقام بكر مع زميليه وفي مساء كل خميس كانوا يتوجهون مباشرة من المدرسة إلى محطة القطار المتجه إلى بلدتهم .
أما وسط الأسبوع، فقد كان بكر يزور بيت عمه الحاج عبد المولى، يدخل فيسلم على بنات عمه وفي معظم المرات تجمعهم مأدبة عشاء شهي.
مع تكرار الزيارات بدأ يشعر باهتمام ابنة عمه حبيبة به وسعادتها بحضوره، فبادلها شعورًا بشعورٍ وسعادةً بسعادة، وتوالت الزيارات الأسبوعية، ومرت أيام وبكر يحس بعاطفة تشده نحو حبيبة.
أحس بحبها ينبت في قلبه، وتأكدت مشاعره مع كل بادرة اهتمام يلحظها منها، ومع كل إشراقة وجه أو الخفر حياءً عند التقاء العينين أو تبادل الحديث.
كان بالمرحلة الثانوية، وهي لم تزل بالصف السادس الابتدائي.
وكم كانت تهتم بنفسها عند مجيئه وتطلب منه المساعدة في بعض واجباتها المدرسية وقد يتذكر الآن أجمل اللحظات عندما كانت تسبقه بالمنشفة ( الفوطة) عند حوض الغسيل ليجفف يديه وربما أطال هذه الدقائق ليتبادلا الهمسات والنظرات والبسمات.
ثم يحتسي معهم الشاي ويهم بالانصراف إلي مسكنه فتسبقه إلى الباب لتودعه بنظرات تُخفي بين أهدابها كل مشاعر الحزن لفراقه.
وما ذرفتْ عيناك إلا لتضربي.. بسهميك في أعشار قلبٍ مُقتّل
وتمر الأيام والمشاعر الدفينة تنمو وتترعرع، رغم أن اللقاء في كل مرة لم يكن يخرج عن نطاق بيت العم.
وكان مجداً في دراسته، يدرك ظروفه جيدًا، ويسابق الزمن كي يصل إلي هدف وضعه نُصب عينيه حتى جاء اليوم الذي أُعلنت فيه النتيجة وحصل على الثانوية العامة والتحق بكلية الهندسة جامعة القاهرة.