الأستاذية والتخصص
أ.د. محمد السعيد عبد المؤمن
أستاذ الدراسات الإيرانية
من أجل أن نصلح التعليم علينا أن نعيد النظر في العرف السائد حول الأستاذية وحول التخصص، وهو العرف الذي قادها إلينا الغرب من خلال رؤية ليبرالية عالمانية، وقد قلدناه دون إدراك لأسسه وطبيعته، فاتخذ التخصص جزئيات ضئيلة في البحث والدراسة، وصار الباحث يتدرج مع هذه الجزئية في الترقي حتى الأستاذية وحتى الأستاذ كرسي التي ألغيت، دون أن يخرج عنها، في حين أن منطق العلم الآن في الغرب يعود إلى الدراسات البينية والتطبيقية، لمعالجة الإمعان في التخصص.
الحق أقول لكم إن علماء المسلمين عندما كانوا يربطون العلم بالإيمان كان توجههم في الدراسة والبحث صحيحا ومثمرا، وقد وصفوا بالموسوعية، لكن هذا الوصف مبالغ فيه، فقد كانت رؤيتهم في الربط بين العلوم الأساسية والعلوم البينية والتطبيقية، وما منعنا عن أن نتابع مسيرتهم إلا التراخي والانفتاح على الغرب بلا روية أو مناقشة أو دراسة، بل انبهارا وانسحاقا أمام الطفرة العلمية التي قام بها الغرب، مع أنها كانت على أسس علمية إسلامية.
الطريق الصحيح الذي ينبغي أن يتبع في الأستاذية مع الارتباط بالتخصص، هو أن نقوم بتفعيل المثل الذي ضربة الله تعالى لنا في قرآنه الكريم: ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء، ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار، جهنم يصلونها وبئس القرار. صدق الله العظيم.
الأستاذية في المثل مرتبطة بالأصل وهو التخصص، لكنها تنمو من بذرة أو عقلة في الأساس إلى فروع وأغصان وأوراق وثمار تظهر في كل حين، هذا النمو في الشجرة بهذه الصورة، هو نفسه النمو في الكلمة التي هي العلم المتخصص، إن سارت الأستاذية هذا المسار صارت الكلمة طيبة والتخصص والعلم كذلك، لأنه في هذه الحالة أصله ثابت في أساس التخصص، لكن اجتهاده له فروع في السماء، هذه الفروع طيبة لأنها تؤتي ثمارها التي عبر عنها المثل بالأُكُل، وهو رمز لحاجة الإنسان فلا يعيش إنسان بغير أكل، وارتباط الأستاذية بالدين هو الذي يجعل ثمرة بحثه وارفة بإذن الله، وعلى الأستاذ أن يظل متذكرا ذلك. والعكس بالعكس، ومن اتباع هذا المثل في الدراسة حتي الأستاذية والإيمان به يثبت الله الأستاذ بالعلم الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، لأن علم الآخرة له قيمة أسمى، والعكس حيث يضل الله الظالمين الذين لا يتبعون فتح الله وهديه، والناتج أنهم بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار بالعلم المضلل، من ثم يكون عقابهم جهنم وبئس القرار.
تطبيقا لذلك مثلا في تخصص اللغة الفارسية وآدابها، يبدأ الدارس بدراسة جزئية في اللغة أو الأدب أو الحضارة في رسالة الماجستير، لكنه في الدكتوراه لابد أن يدرس موضوعا أشمل فينتقل إلى الظواهر سواء في اللغة أو الأدب أو الحضارة، وهو ما يجعله مطلعا على ثقافة التخصص في هذه المجالات الثلاثة، أما إذا انتقل إلى البحث للحصول على لقب الأستاذ المساعد فعليه أن يختار البحوث التي تثبت اتساع أفقه في التخصص العام، وعليه أن يدلل على ذلك باستفادته من التخصصات البينية، فلا يوقف نظرته العلمية عند اللغة فقط أو الأدب، شعرا أو نثرا أو فنا، أو الحضارة فقط، بل يدمج بين هذه الجزئيات في بحوثه، فإذا كان يود أن يصبح أستاذا فعليه أن يتطرق في بحوثه إلى الفضاء العام لهذا التخصص، ولأنه ساحة واسعة فهو الذي ينبت ثمارا نافعة في كل حين، فيدرس من خلال منهج الاستقراء كل ما يتعلق بالتخصص من تداعيات في كافة ما يوضع في بوتقة اللغة من فن وسياسة واقتصاد واجتماع وشخصية قومية وثقافة مذهبية وأدب معاصر بكل فنونه، وتطور لغويات معاصرة، حتى يكون كل بحث من بحوثه ثمرة طيبة للمستفيدين. بهذا تصبح الدراسة هي الكلمة الطيبة والعلم النافع الذي يؤتي ثماره كل حين، ولا يتقادم أو يوضع في سلة المهملات كالكلمة الخبيثة التي تجتث من فوق الأرض، ولا قرار لها.
فلا معنى أن يُسأَل أستاذ عما يدور في بلد التخصص فيعجز عن الإجابة! أو يقول كلاما يعرفه العامة، أما ماذا بعد الأستاذية؟! فلابد من الاستمرار في البحث على هذه الطريقة حتى الممات، وإلا ماتت الدراسات والتخصصات والتقدم العلمي.
فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد.