كتبت: إيمان عوني مقلد
كان “دواء” في عيادته المتواضعة، شمالي مصر لمن ضاقت عليهم حياتهم، ولا يجدون ثمن الشفاء، فلما انقطع عنها صبيحة الثلاثاء، عرف أنه مات ولم يجد مصريون بعده علاجا يعيده إليهم، فأكثروا النعي والحزن.
هو الطبيب المصري، محمد عبد الغفار مشالي، الذي نعاه شيخ الأزهر، أحمد الطيب، بوصفه “مثال للإنسانية”، واعتبرته روزى دياز، المتحدثة البريطانية للشرق الأوسط، “إنسانًا عظيمًا فقده العالم بعدما كرّس حياته لعلاج الفقراء”.
والبداية يحكيها مشالي ذاته في مقاطع فيديو اشتهر بها السنوات الأخيرة، بخلاف ما عجت به منصات إعلامية محلية، فهو ابن أسرة متواضعة، طرق باب الدنيا عام 1944، في منطقة شعبية عرف فيها “الفقراء والمساكين”.
فمشالي كما يقول “عشت كفاحا مريرا، وبدأت من الصفر”، غير أنه لم ييأس، تخرج الشاب المكافح من كلية الطب عام 1967، ولم يبتعد عن المهمشين، ففي عمله الحكومي الطبي، تنقل في القطاع الريفي المعروف بالقطاعات ذات الدخول القليلة غالبا، حتى أحيل للمعاش عام 2004.
وكانت تجاعيد وجهه مع تقدم سنه وانحناء ظهره، تقول إنه كافح طيلة عمره دون انقطاع، تارة من أجل “تربية أبنائه الثلاثة، وأبناء شقيقه الأيتام”، ومن أجل آخرين فقدوا حقهم في العلاج، فهم “المعذبون في الأرض” والأولى برعايته أيضا بعيادته التي افتتحت عام 1975.
و”المعذبون في الأرض”، مجموعة قصصية خطها عميد الأدب العربي المصري، طه حسين، مدافعا عن “الطبقات المهشمة”، وكان يحب مشالي قراءتها، وفق أحاديثه.
وتنقل صور حفلت بها مواقع إلكترونية محلية في سنوات ماضية، أعدادًا كبيرة من هؤلاء “المعذبين في الأرض” متراصة في عيادتين اثنتين بمحافظة الغربية، كان مشالي يقدم فيهما دواءه لمن لا يستطيع لذلك سبيلا.
ولم يستطع الطبيب محمد مشالي، أن ينسى قصة مأساوية لطفل صغير في إحدى محافظات مصر، فقد حياته لعدم وجود مال يكفي مع والدته لشراء جرعة دواء له وكلما كانت تسأله وسائل إعلام عن سبب اتجاهه لدعم الفقراء بالعلاج، يكرر ذكر تلك القصة بكل حزن.
وكذلك لم ينس وصية والده عبد الغفار بالفقراء، فبأقل من نصف دولار، يستطيع من ضاقت عليه حياته أن يتلقى كشفا طبيا وربما علاجا أحيانا كثيرا، عند الطبيب محمد مشالي، “ومن ليس معه لا يدفع”، كما تقول وسائل إعلام.
ومع سطوع نجمه متأخرا في منصات الإعلام، جاءت الأموال تسعى، غير أنه ارتبط بحياته بين البسطاء، ولم يقبل آلاف من الدولارات من برنامج إماراتي شهير قبل نحو شهرين، ودعا لتقديمها للمحتاجين والأطفال الأيتام وللأماكن الاجتماعية التي تحتاج الدعم.
وفي ظل بساطته المعهودة، التي لم تمتلك بحياته سيارة فارهة كما يستقلها بعض من أبناء جيله، قال مشالي بقناعة نادرة: “أعطتني الدنيا أكثر مما أتمنى وأستحق”.
وحتى قبل ساعات من وفاته عن عمر يناهز 76 عاما، كان مشالي بين هؤلاء المهشمين في عيادتيه “ضاربا مثلا في الإنسانية” كما يقول شيخ الأزهر، الذي دعا أن يلحقه الله بالنبين والشهداء.
وعندما صعدت روحه للسماء، ضجت أنحاء كثيرة من منصات مصر لاسيما الإعلامية والطبية بالحزن، ونعاه كثير، كما أحبه كثير بحياته.
وتعجب مغردون ومدونون من شخصية مشالي، وحرصه حتى ساعات من وفاته أن يكون دواء لداء الفقراء، إذ مثله عملة نادرة برأيهم، داعين لهم بالجنة.
وحمل مشالي، أو طبيب الغلابة كما يلقب في مصر، الثلاثاء على أعناق المئات من أبناء قريته شمالي مصر، رغم تدابير فيروس كورونا.
ويرحل “طبيب الغلابة” بجسده فقط معه دعوات غزيرة بالرحمة، والغفران، في أيام خير قبيل انطلاق مناسك الحج، ويبقى للمهمشين عبير خيره و”كفاحه المرير”، تتذكره حاليا العشرات من المنصات الإعلامية المحلية والدولية، وآلاف التغريدات والتدوينات.
وعندما تفتح وصيته بعد وفاته، لن يجد فيها من يقرأها بحسب ما نقله إعلام محلي إلا “أوصيكم خيرا بالغلابة.. أوصيكم خيرا بالغلابة”.