مؤلفات الدكتور عاطف عبد اللطيف بدره
في ضوء منهج نقدي إسلامي
بقلم: دكتور صلاح عدس
النقد الأدبي إبداع شأنه في ذلك شأن القصة والشعر والمسرحية، وقد أبدع الدكتور عاطف عبد اللطيف في عرضه وتحليله لتراثنا الشعري وأدبنا الحديث، وتتميز مؤلفاته بالإحكام في الأحكام النقدية، كما تتميز في منهجها بالدقة والموضوعية في عرضها بالتشويق والجاذبية وفي أسلوبها بالجمال والشاعرية.. وسنحاول هنا الاقتراب المنظومي “System approach”(1) من مؤلفاته أي اعتبارها منظومة واحدة أي ذات رؤية واحدة وهدف واحد فهي ليست كتباً أكاديمية متفرقة أو كتباً للتسلية ولذلك سنحاول تحليل هذه المنظومة “System analysis” لنبين أجزائها أي عناصرها وهدفها .
أما عناصر منظومة مؤلفاته فتنضوي تحت قسمين أولهما أدبنا القديم وثانيهما أدبنا الحديث وأما هدفه باعتباره من الحرس الجديد للأدب العربي، فهو إظهار نواحي العظمة والجمال فيه .
والأيديولوجية الاسلامية مركزها مبدأ التوحيد، فالله الواحد هو الخالق الرازق المحاسب ومن ثم يجب طاعته في كل أوامره ونواهيه وهذا هو مفهوم العبادة، والاسلام منظومة كبرى متكاملة العناصر تشمل كل نواحي الحياة من اقتصادية، سياسية، اجتماعية، وثقافية ومنها الأدب، وكل منها يشكل منظومة صغرى داخل المنظومة الكبرى تماماً مثلما تلقي بحجر في بركة ماء فإنه يظهر على السطح دائرة مركزها ذلك الحجر ثم تظهر دائرة أكبر ويليها أكبر فأكبر وهكذا دواليك حتى تظهر الدائرة الكبرى ولكن كلها ذات مركز واحد هو ذلك الحجر، كذلك الاسلام هو الدائرة الكبرى أو المنظومة الكبرى الشاملة لكل مناحي الحياة ومركزها كلها واحد هو مبدأ التوحيد فهو “الكود” أو “الشفرة” أو “القانون العام” أو “الإطار المرجعي” ]فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول(٢)[ ]قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (٣)].
وهذه الأيديولوجية الاسلامية تشكل الرؤية في الأدب الاسلامي أي التصور الكلي لله والكون والإنسان والحياه وتتشكل منهجنا في النقد الأدبي بمرجعية اسلامية فتقبل ما يقبله الإسلام ونرفض ما يرفضه الإسلام، وفي ذلك يقول “القيرواني” إن النظرة إلى الشعر من زاوية أخلاقية دينية، هو من صميم العمل الفني ، وهذا ما يشرحه كاتبنا في كتابه “من ظواهر النقد الأدبي عند العرب” وقبل حديثه عن النقد كتب عدة مؤلفات عن الأدب القديم موضحاً جوانب الجمال والعظمة فيه مثل كتابه “تاريخ الأدبي الجاهلي” وكتاب “نصوص أدبية من عصري صدر الإسلام وبني أمية”، وكتاب “تاريخ الأدب في العصر العباسي”، وكتاب “دراسات في الأدب العباسي”، وكتاب “دراسات في الأدب الأندلسي”، وكتاب “جماليات النص الشعري في الأدب العربي القديم” ..
كما كتب الدكتور عاطف عبد اللطيف عدة مؤلفات تتميز بالجدة والعمق أيضاً مثل كتابه ( قطوف من ثمار الأدب العربي الحديث ) وكتاب ( في النقد الأدبي الحديث ) وكتاب ( مختارات من الأدب العربي الحديث ) وغيرها كثير مما يشكل منظومة واحدة؛ أي ذات هدف واحد؛ هو الدفاع عن تراثنا وأدبنا العربي .
ويعرض لنا كاتبنا تاريخ النقد الأدبي منذ الجاهلية وصدر الإسلام حتى العصر الأموي والعباسي وذلك في كتابه “ظواهر النقد الأدبي عند العرب” ويشرح فيه أهم القضايا التي أثارها النقاد قديماً مثل القاضي الجرجاني في كتابه “الوساطة بين المتنبي وخصومه” و”الآمدي” في كتابه “الموازنة بين أبي تمام والبحتري” و”ابن قتيبة” في كتابه “الشعر والشعراء” وابن سلاَّم في كتابه “طبقات فحول الشعراء” “وابن طباطبا” في كتابه “عيار الشعر” “وقدامة بن جعفر” في كتابه “نقد الشعر” وكذلك “بديع الزمان الهمذاني” في المقامات..
وأهم هذه القضايا هي قضية تعريف الشعر وماهيته وقضية المقدمة الطللية، وقضية علاقة الأدب بالدين والأخلاق، وقضية السرقات الأدبية، وقضية البساطة والتعقيد، التي انتصروا فيها للبحتري للبساطة، ولقبوه بشاعر الطبع وهاجموا أبا تمام ولقبوه بشاعر الصنعة، وما ارتبط بذلك من قضية اللفظ والمعنى، وكذلك قضية الانتحال وما إلى ذلك من قضايا ..
أما المقدمة الطللية أي بدأ القصيدة بذكر الأطلال فإن العرب درجوا على ذلك حتى جاء أبو نواس فكان أول من جدد في بناء القصيدة العربية، حين رفض المقدمة الطللية وبدأ القصيدة بذكر الخمر، ونحن نرى أن هذا الكلام منقول من كتاب لكتاب وهو من الأكاذيب الشائعة لأن الحقيقة هي أن أول من فعل ذلك هو “عمرو بن كلثوم” في مطلع معلقته إذ يقول:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا ** ولا تبقى # ولا تبقي خمور الأندرينا
كما أن أول من تخلى عن المقدمة الطللية هم شعراء أهل البيت، والدليل مثلاً على ذلك مطلع قصيدة الفرزدق عن “زين العابدين” والتي سجنه بسببها هو هشام بن عبد الملك ويقول في مطلعها:
هــذا الذي تعرف البطحاء وطأته ** والبيت يعرفه والحل والحـــــــرم
وليس قـــــــولك من هذا بضائره ** العرب تعرف من أنكرت والعجم
ويقول “الكميت” في مطلع رائعته البائية وهي إحدى هاشمياته الست:
طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطرب ** ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب
ولم يلهني دار ولا رســم منـزل ** ولم يتطربني بنان مخضــــب
ولكن إلى أهل الفضائل والتقــى ** وخير بني حواء والخير يطلـب
أما قضية تعريف الشعر وماهيته ففي ذلك يقول “قدامة بن جعفر” في كتابه “نقد الشعر”: ]الشعر هو قول موزون مقفى يدل على معنى[ وهذا التعريف ناقص أي أنه جامع لكنه ليس مانعاً لأنه بذلك يدخل فيه مثلاً “ألفية بن مالك” وهي مجرد نظم لأنه كلام تقريري مباشر يخلو تماماً من الشعرية ونقصد بها الصورة الفنية (٤) من تشبيه واستعارة وكناية، لذلك جاء “الجاحظ” وأضاف ذلك في كتابه “البيان والتبيين” إذ يقول: ]الشعر جنس من التصوير[ وبذلك يكتمل تعريف الشعر ويصبح جامعاً مانعاً ..
أما كتابه “دراسات في أوزان الشعر وموسيقاه” فما أحوجنا إليه الآن وكذلك كتابه “نظرات فنية في الدوائر العروضية”، والدوائر العروضية هي وسيلة لحصر كل مجموعة من الأوزان الشعرية في دائرة خاصة وقد وضعها “الخليل بن أحمد” وسمّى هذه الدوائر باسم “المختلف” و”المؤلف” و”المجتلب” و”المشتبه” و”المتفق”، ولكاتبنا نظرات فنية جديدة في هذا الموضوع منها استخدامه في الأشكال التوضيحية للمستطيلات بدلاً من الدوائر وغير ذلك كثير مما يفهمه الأكاديميون المتخصصون، وفي ذلك الحديث ردوتعريض على أصحاب الحداثة الذين يظنون أن القضية قد انتهت وأن الشعر العربي العمودي قد مات، وهم في ذلك واهمون ، تماماً مثلما ظل الشعراء في العصر التركي والمملوكي يتلاعبون بالألفاظ والزينات في البديع وهم يظنون أنهم يحسنون صُنعاً لمدة تزيد عن خمسمائة عام حتى جاء “البارودي” وكشف زيفهم وأعاد الشعر العربي إلى نهضته الحديثة، ولذلك نجد كاتبنا الدكتور عاطف عبد اللطيف شديد الاهتمام به وبشعراء العصر الأموي والعباسي الذين قلدهم البارودي في كلاسيكيته وإحيائه لشعرنا فنجد كاتبنا في كتابه “مختارات من الشعر العربي الحديث” يحدثنا عن ملامح عصر هذه النهضة الحديثة على يد البارودي وشوقي وحافظ فيعرض لنا تحليلاً للشكل والمضمون والعاطفة والتجربة الشعرية والصورة والخيال والموسيقى تحليلاً أسلوبياً لكل قصيدة يعرضها لكل شاعر يتناوله مثل نونية “البارودي” في حرب “أقريطش” والتي يقول في مطلعها:
أخذ الكرى بهما قد الأجفان ** وهفا السرى بأعنة الفرسان
ويقدم لنا كاتبنا دراسة موجزة لكنها وافية عن حياة كل شعر يتناوله وخصائصه الفنية، ثم يحدثنا عن “شوقي” في الوطنية ويحلل لنا قصيدته التي مطلعها:
ويا وطني لقيتك بعد يأس ** كأني قد لقيت بك الشبابا
ثم يحدثنا عن الشاعر “حافظ إبراهيم” وقصيدته في حريق ميت غمر والتي يقول في مطلعها:
سائلوا الليل عنهم والنهارا ** كيف باتت نساؤهم والعذارى
ثم يحدثنا كاتبنا عن “خليل مطران” وقصيدته “المساء” والتي مطلعها:
داء ألمّ فخلت فيه شفائي ** من صبوتي فتضاعفت برجائي
ويحدثنا بعد ذلك عن إبراهيم ناجي وقصيدته “الوداع” التي يقول في مطلعها:
حان حرماني وناداني النذير ** ما الذي أعددت لي قبل المسير
ثم يحدثنا عن الشاعر “محمد محمود الزبيري” وقصيدته “صيحة البعث” .. ثم يعرض لنا كاتبنا مختارات من النثر العربي الحديث بعد عرضه لمسرحية “أحمد شوقي” الشعرية وهي “كليوباترا”، وأما نماذج النثر فهي قصة “اليمامتان” للرافعي وقصة “مجد القلم لميخائيل نعيمة” .. أما كتاب “قطوف من ثمار الأدب العربي الحديث” ففيه يعاود امتاعنا بالحديث عن البارودي وقصيدته النونية في حرب أقريطش ثم يحدثنا عن مظاهر الثورة في شعر “أبي القاسم الشابي” ثم يحدثنا عن الشاعر “محمد عبد الرحمن صان الدين” والاتجاهات الموضوعية والجوانب الفنية في ديوانه “أعاصير وأنسام” ثم يحدثنا عن الاتجاهات الشعرية والسمات الفنية في شعر “محمد سعيد جرادة” .
ونجد كاتبنا الدكتور عاطف عبد اللطيف في كتابه “جماليات النص الشعري في الأدب العربي القديم” يلقى الأضواء النقدية على ثلاثة من الشعراء الحقيقيين مثل أبي تمام في قصيدته فتح عمورية التي يقول في مطلعها:
السيف أصدق أبناء من الكتب ** في حدّه الحد بين الجد واللعب
ثم يحدثنا عن المتنبي ونونية في معركة الروح والتي يقول في مطلعها:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ** هـــو أول وهي المحل الثاني
ثم يحدثنا عن ابي فراس الحمداني وقصيدته أراك عصى الدمع ومطلعها:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ** أما للهوى نهى عليك ولا أمر
وقدم لنا كاتبنا في كل مؤلفاته تحليلاً للمضمون وتحليلاً أسلوبياً بأسلوب عصىّ لأنه سهل ممتع شيمته الحق وليس للهوى نهى عليه ولا أمر وإنما لله وحده الأمر والنهي دفاعاً عن تراثنا وأدبنا الملتزم قديماً وحديثاً وهذا هو المنهج الإسلامي.
وخلاصة القول هي أن الدكتور “عاطف عبد اللطيف” قد تعطف علينا بأسلوبه اللطيف وغمرنا بثقافته الموسوعية في أبحاثه ودراساته التي جمع لها أدق المراجع وأوثق المصادر وتحقق فيها عمق المضمون وجاذبية العرض والأيديولوجية الاسلامية في المنهج والمقصد وهي ليست مجرد أبحاث أكاديمية وإنما هي إثراء للمكتبة العربية.
المراجـــــع
1- أنظر كتاب Cybernetics within us, by: Ilyna sabrina.
2-سورة النساء آية رقم 95.- ٣-سورة الأنعام آية رقم 162.
٤- The meaning of art, by: Herbert Reed.