كتبت: إيمان عوني مقلد
رغم مرور نحو سبعة عقود على قيامها، لا يزال العالم العربي يحتفي مع مصر بثورة 23 يوليو التي قادها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، لما تركته من أثر فعال ليس على الصعيد الداخلي المصري فحسب، بل على الصعيدين العربي والقومي.
لطالما سعى جمال عبدالناصر إلى تحقيق الإصلاح والتغيير في مصر، سواء لجهة تحقيق التنمية الاجتماعية والتغيير السياسي أو وضع أسس العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر وتأمين الاكتفاء الذاتي، إلا أنه عمل بجهد مواز على الصعيد الخارجي لإكساب مصر دورا عربيا فعالا ولدعم الدول والثورات العربية وتحقيق الوحدة والتعاون بين الدول العربية.
في عهد جمال عبدالناصر لعبت مصر دورا غير مسبوق على الساحة العربية والإقليمية والدولية، فتمتعت مصر بمكانة سياسية كبيرة، وكان رئيسها من أهم زعماء العرب والعالم في حينها، فأقام علاقات ودية طيبة مع مختلف الدول العربية، كما أنه قدم كل ما يلزم من دعم لدول أخرى كانت تختبر أوضاعا صعبة أو تمر بفترات انتقالية بفعل الثورات أيضا.
لعل أبرز مواقف عبدالناصر سجلت خلال مساندته للثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي. فقد ألهمت الثورة المصرية التي قام بها الضباط الأحرار في مصر الأحرار في الجزائر بعد عامين فقط. وسرعان ما قامت الثورة الجزائرية التي دعمتها مصر على مدى قيامها، أي على مدى 7 سنوات سقط خلالها أكثر من مليون شهيد حتى سميت الثورة تيمنا بهم ثورة المليون شهيد. واستمر الدعم المصري والمساعدات الكثيفة لجبهة التحرير الوطني الجزائرية ضد الفرنسيين إلى أن سقط الاستعمار الفرنسي للجزائر في 5 يوليو 1962.
لطالما حقدت فرنسا على مصر لكونها دعمت الجزائر إلى حد كبير، كما انها كانت من أطلقت شرارة الثورة ولو بشكل غير مباشر، وهو ما دفع باريس إلى المشاركة في العدوان الثلاثي على مصر مع بريطانيا وإسرائيل.
وبالانتقال إلى ليبيا يمكن القول ان «ثورة الفاتح» في ليبيا حملت أيضا شعلة ثورة 23 يوليو المصرية، ففي 1 سبتمبر عام 1969م تحرك معمر القذافي ومعه ما عرفوا بالضباط الوحدويين الأحرار في الجيش الليبي تجاه مدينة بنغازي، لتحرير مبنى الإذاعة ومحاصرة قصر الحكم، ومن ثم سارع ولي العهد إلى إصدار بيان التنازل عن الحكم، حيث كان والده خارج البلاد في رحلة لتلقي العلاج في تركيا.
كان الزعيم جمال عبدالناصر ورفاقه يراقبون الوضع وتطوراته في ليبيا باهتمام، وكانوا على اتصال مع قيادة الثورة الليبية ومعمر القذافي، الذي قبل اقتراح جمال عبدالناصر بخصوص إقامة العاهل السابق إدريس السنوسي في القاهرة، حتى لا يصبح عرضة للتأثير الأمريكي، وركز مجلس قيادة الثورة كل السلطات بيده، ووزعت داخله الاختصاصات.
ثورة اليمن
اليمن هي الأخرى استلهمت ثورتها التي قام بها ضباط الجيش اليمني مما حدث في 23 يوليو في مصر، ففي 26 سبتمبر عام 1962 كانت الخطة التي وضعها المشير عبدالله السلال مع عدد من ضباط الجيش اليمني جاهزة للتنفيذ، للإطاحة بحكم الإمام محمد البدر حميد الدين، وإعلان قيام الجمهورية اليمنية، لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، إذ كانت هذه الحركة التي عرفت بحرب اليمن أو ثورة 26 سبتمبر سببا في دخول اليمن في صراع استمر ثماني سنوات. كان الضباط في اليمن يسعون إلى تكرار تجربة ثورة 23 يوليو في مصر، ضد حكم الإمام محمد البدر الذي كان يحكم البلاد بقبضة من حديد؛ إذ رفع الضباط اليمنيون الشعارات نفسها التي رفعها الجيش المصري أثناء الثورة، منها التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتها وإقامة حكم جمهوري عادل وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات، وبناء جيش وطني قوي لحماية البلاد وحراسة الثورة ومكاسبها، والعمل على تحقيق الوحدة الوطنية في نطاق الوحدة العربية الشاملة.
سياسات محايدة
على الصعيد العالمي -على سبيل المثال لا الحصر- أدت سياسات الزعيم جمال عبدالناصر المحايدة خلال الحرب الباردة إلى توتر العلاقات مع القوى الغربية، التي سحبت تمويلها للسد العالي الذي كان عبدالناصر يخطط لبنائه، فرد الرئيس عبدالناصر على ذلك بتأميم شركة قناة السويس سنة 1956، ولاقى ذلك استحسانا داخل مصر والوطن العربي. ومن ثم قامت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بالعدوان الثلاثي واحتلال سيناء، لكنهم انسحبوا وسط ضغوط دولية، وقد عزز ذلك مكانة عبدالناصر السياسية بشكل ملحوظ في العالم.
فضلا عن أن عبدالناصر استطاع أن يحقق حلمه في وحدة مصر وسوريا عام 1958، وشكل خطرا على الدول الكبرى في فترة حكمه.
اتفاقية الانتفاع الكامل لمياه النيل
كما كان لعبدالناصر مواقف كثيرة مع دولة السودان، منها تمكنه من حل أزمة مياه النيل بين مصر والسودان، والتي تكون دائمًا قضية جوهرية حساسة في العلاقات المصرية السودانية، إذ قام بتوقيع اتفاقية جديدة تم إبرامها عام 1959 عرفت باسم «اتفاقية الانتفاع الكامل لمياه النيل»، وبموجب نصوص اتفاقية 1959 تم إنشاء «اللجنة الفنية الدائمة»، تلك اللجنة الثنائية المشتركة بين مصر والسودان.
وأعلن عبدالناصر موقفا واضحا من دول الغرب وواشنطن من خلال عدم انحياز مصر إلى أي من الكتلتين الشرقية والغربية في مؤتمر باندونج بإندونيسيا، واتخاذها موقف الحياد بشأن الحرب الباردة، كما عبر عبدالناصر عن عدم اقتناعه بالسياسات الأمريكية في المنطقة، كما أعلن موقفه الرافض للمعونة الأمريكية وأي تهديد للسيادة المصرية، وشن وقتها هجوما سياسيا وإعلاميا حادا على مواقف الولايات المتحدة.
وبدأت مصر مع الهند ويوغوسلافيا منذ بداية الستينيات مشروعا لتصنيع الطائرات والصواريخ والمحركات النفاثة والأسلحة، وحتى سنة 1967 كانت مصر متفوقة على الهند في صناعة الطائرات والمحركات النفاثة، وتم صنع الطائرة النفاثة المصرية القاهرة 300.
كما صنعت مصر أول صاروخين من إنتاجها بمساعدة علماء الصواريخ الألمان، لكن شابهما عيوب في أجهزة التوجيه، وفي عام 1966 كان الفارق بين البرنامج النووي المصري ونظيره الإسرائيلي يتناقص، ورغم النكسة كانت مصر على وشك تحقيق توازن القوي في المجال النووي بينها وبين إسرائيل بحلول سنة 1971. وبعد هزيمة حرب الأيام الستة سنة 1967 استقال عبدالناصر من جميع مناصبه السياسية بسبب هذه الهزيمة، لكنه تراجع عن استقالته بعد مظاهرات حاشدة طالبت بعودته إلى الرئاسة.
بين سنتي 1967 و1968 عين عبدالناصر نفسه رئيسا للوزراء بالإضافة إلى منصبه كرئيس للجمهورية. وشن حرب الاستنزاف لاستعادة الأراضي المفقودة في حرب 1967. وبدأ عملية عدم تسييس الجيش وأصدر مجموعة من الإصلاحات الليبرالية السياسية.
النهوض بمصر
واستطاع الزعيم جمال عبدالناصر أن ينهض بالمجال الاقتصادي، فعلى الصعيد الصناعي تم بناء مشروعات الصناعات الثقيلة كالحديد والصلب وشركة الأسمدة والكيماويات، بالإضافة إلى مصانع إطارات السيارات الكاوتشوك ومصانع عربات السكك الحديدية «سيماف»، ومصانع الكابلات الكهربائية.
ويعد السد العالي أحد أهم وأضخم ميراث تركه عبدالناصر للشعب، والذي مازال يخدم المصريين حتى الآن، فقد حمى السد الذي بناه عبدالناصر بمساعدة الخبراء السوفييت مصر من خطر الفيضان، فوفر كميات المياه اللازمة لتحويل ري الحياض إلى ري دائم، وبفضله تم استصلاح ما يقرب من 2 مليون فدان.
وفي الستينيات مدت خطوط الكهرباء من أسوان إلى الإسكندرية، كما تم الاستثمار في المناجم في أسوان والواحات البحرية، وتم تمويل كل هذه المشروعات ذاتيا، سبقها في 26 يوليو 1956 تأميم شركة قناة السويس وردها إلى مصر.