ضحايا يلدن ضحايا
بقلم/ د. نجلاء الورداني
قصتنا حكاية ضحايا وليست حكاية لضحية واحدة، حيث تبدأ قصتنا بالجدة، تلك المرأة الشابة الفقيرة التي مات عنها زوجها وعائلها الوحيد في الدنيا بعد معاناة مريرة مع المرض، تاركا لها بنتين، فخرجت للعمل تبحث عن مصدر رزقها، ولكن الناس لا ترحم ولا تترك من حولها كل يحيا بطريقته، وبدأت تتحدث عن المرأة الجميلة التي تترك بناتها في البيت وتذهب لتمارس الفواحش، وحجتها العمل وتربية بناتها، فقررت المرأة أن تخرس كل الأفواه وبدأت تفكر في الطريقة التي تساعدها على ذلك، فوجدت أن الزواج هو الحل، فعرضت نفسها على شاب يصغرها بسبع سنوات يعمل معها وينتمي لأسرة ريفية، حيث يسكن في حجرة شرك مع بعض أصدقائه ويذهب لأهله ليلة الخميس ليأتي مساء يوم الجمعة.
وبينما هو كذلك إذ عرضت عليه المرأة الزواج، فوافق على الفور، ولِمَ لا؟! فالمرأة جميلة وذكية وتعمل معه، ويعتمد عليها صاحب العمل وتمتلك شقة يسكن معها فيها، فتم الزواج، وعاش الشاب معها عشرين عامًا، كبرت خلالها البنات، نعم بكل مظاهر الحياة والحب والاحتواء والاحترام خلالها، ولكنه تقاعد عن العمل، فالمرأة هي من تعمل وتنفق، وهو يشاهد التلفاز ويأكل وينام، لقد ارتضت المرأة ذلك من أجل ترك رجل مع بناتها في البيت أثناء عملها، رجل يمنع عنها كلام الناس ويخرس الألسنة، ولا يوجد ما يمنع من كونه رجلًا يلبي لها متطلباتها كأنثى، واستمرت الحياة هكذا إلى أن توفت الزوجة، وفي هذه الأثناء كانت البنت الكبرى قد تزوجت وأنجبت بنتًا جميلة تشبه جدتها ملأت عليها حياتها.
توفت الزوجة وطلبت البنت الكبرى من الزوج أن يترك المنزل، لقد أصبح لا يوجد في البيت سواه هو وأختها الصغرى، ولا يصح أن يعيش معها في بيتٍ واحد، ولكنه رفض وطالب بميراثه في الشقة، فعرضت عليه أن يحدد ميراثه، وسوف تقوم هي وأختها –التي كانت تعمل بأحد المصانع– بعمل جمعية وتعطيه ما يريد، ولكنها تريد منه فقط الانتظار لمدة عام، فرفض أيضًا، وعرض عليها أن يعيش هو والفتاة في المنزل؛ فهي مثل ابنته وهو يكبرها بما يقرب من اثنتين وعشرين عامًا، والغريب أن الفتاة وافقت وقالت لأختها: لقد تربينا معه بعد أبينا، وهو مثله تمامًا فلما لا أحيا معه يحميني من الناس والألسن ويوفر لي الأمان، فأجابتها الأخت الكبرى بأن هذا كلامًا غير منطقي، وأن ما تقوله سوف يفتح عليها أبوابًا لا قِبَلَ لها بها، ولكن الفتاة رفضت وقالت بأن الناس لا شأن لهم بحياتها، وقالت لأختها معترضةً: لِمَ لا تأتين للعيش معنا أو تأخذينني للعيش معك! فهي تعلم جيدًا أن أختها تحيا حياة بسيطة مع زوجها، وأنه سيرفض ما تقول.
واستمرت المشكلة قائمة بينها وبين أختها وزوج أمها المتوفاة، ولكن الأيام تمر والمشكلة كما هي والناس تتحدث عن وضع غير لائق، وفجأة وبدون مقدمات جاءت إحدى جارات الفتاة في البيت، والتي تسكن الشقة المقابلة لشقة والدة الفتاة المتوفاة ومعها زوجها، لتخبر أختها بأن هناك بعض الأمور والأوضاع التي تستحق منها الوقفة، حيث أخبرتها بأن أوضاع الفتاة مع زوج والدتها غير طبيعية، فكما تعلمين –والكل يعلم– بأن البيوت كلها مكشوفة على بعضها البعض، فأصوات الضحك لا تكف ليل نهار، والخروج الزائد مع زوج أمها والعودة في أوقات متأخرة واللبس غير اللائق والملائم لمنطقتنا، فردت عليها أخت الفتاة بأنها قد عرضت على زوج والدتها أن يترك الشقة لهما لتحيا بها الفتاة وتزورها أختها من وقت لآخر، تجالسها وتطمئن عليها إلى أن تتزوج، ورفض ورفضت معه الفتاة، وهي تفكر في حل، فوالدتها لم يمر على وفاتها عام، ولكنها وعدت المرأة بأنها سوف تذهب إلى أختها وتتناقش معها في الموضوع وسوف تصل لحل بإذن الله.
ذهبت الأخت الكبرى إلى بيت والدتها لتخبر زوج والدتها وأختها بأنها استطاعت توفير بعض الأموال هي وزوجها وسوف تعطي الزوج نصيبه ليذهب إلى مكان آخر ويترك لهما الشقة، ولكنها فوجئت بأختها تجلس بملابس شفافة أمام زوج والدتها، مما أثار في قلبها الذعر والقلق، وحينما سألت أختها عن ذلك أجابتها بمنتهى الحدة، لتقوم مشادة كلامية بينها وبين زوج والدتها انتهت بطردها وضربها منه، فعادت لبيتها وحكت لزوجها ما حدث، ولكن رده تمثل في رفضه لهذا وقال لها: اتركيهم يفعلوا ما يشاءون، فهذه أوضاع خاطئة ولن يسكت عنها السكان “وأهل الحتة”، وأبلغي أقارب والدك ووالدتك بذلك، وبالفعل نفذت الزوجة كلام زوجها وذهبت لأهلها تخبرهم بهذه الأوضاع وتحثهم على مساعدتها في حل هذه المشكلة.
ولكن هيهات أن تأتي الرياح بما تشتهي السفن، وكالعادة انشغل الكل بمشاغله وتُرِكَت المشكلة قائمة كما هي، ومرت الأيام وبدأت تظهر على الفتاة تغيرات في الجسد لاحظها الجيران وأهل المنطقة، لتكون الطامة الكبرى بحمل الفتاة من زوج أمها، فقرر السكان إبلاغ الشرطة، ولكن قبل أن تأتي استطاعت الفتاة الهرب مع زوج أمها.
ومرت الأيام والشقة مغلقة، لتأتي ذات يوم امرأة منتقبة إلى الأخت الكبرى تزورها في بيتها ومعها طفلة تبلغ من العمر تسع سنوات، وتطرق الباب وتطلب الزيارة وتسدل النقاب من على وجهها، لتجد الأخت الكبرى أمامها أختها الهاربة مع زوج أمها ومعها طفلة صغيرة وتخبرها بأن هذه هي ابنتها من زوج أمها، والتي لم تستطع أن تستخرج لها شهادة ميلاد، وقصت لها ما عانته مع زوج والدتها إلى أن توفى، وطلبت منها أن تترك لها الفتاة؛ فقد قابلت شابًا وترغب في الزواج منه، وقد أخبرته بأن الفتاة أختها وليست ابنتها.
وفي هذه الأثناء كانت الأخت الكبرى قد طُلقَت من زوجها الأول الذي أنجبت منه بنتين، وتزوجت برجل آخر وأنجبت منه ابنة ثالثة، وتعمل في تبديل الأنابيب، كما إن ابنتها الكبرى قد تزوجت ولكن زواجها غير مستقر، فهي تأتي إليها في أوقات كثيرة تعيش معها هي وبناتها، وزوجها الأول يعيش معها في حجرة مجاورة لها في البيت، فهو رجل مريض، وزوجها الثاني يعيش معها بلا عمل، وهي ترعى كل هؤلاء ولا تقوى على تحمل مسئوليات أخرى، فقالت لها: اتركيها تعيش في شقة جدتها واطمئني عليها من وقت لآخر، فردت عليها بعنف وحدة قائلةً لها بأنها لن تتغير أبدا، فالمهم هو أنتي فقط وطردتها من بيتها، فمشت ولكنها تركت الابنة في الشارع بعد أن أوضحت لها بأن هذه المرأة خالتها.
وكعادة الأخت الكبرى، تلك المرأة الطيبة مثلها مثل والدتها، أخذت الطفلة، والتي نظرت لها بفرح وحزن في آن واحد، حيث تتساءل بداخلها: ماذا تكون هذه الفتاة؟ هل هي ابنة أختي أم أنها ابنة ماضي أليم وحزين يحمل بين طياته الحرام بعينه؟! ولكنها سرعان ما عادت لحالتها وقررت بداخلها أنها ابنة صغيرة لا تعلم شيئًا، ولا يجب لها أن تعلم غير أنها خالتها، وأن تعيش معها لزواج والدتها، وأنها أرسلت لخالتها لتحيا في بيت لا يوجد به سوى ثلاث بنات وأمهم ورجل كبير السن لا يعمل، ورجل آخر في الحجرة المجاورة مريض، والبيت مليء بالناس ليل نهار، في نظام حجرات مستقلة بحمام مشترك في منطقة منخفضة عن سطح الأرض، ومرت الأيام واستمرت الحياة بحلوها ومرها تتحملها الأم التي ترعى بنتان وابنة متزوجة غير مستقرة في حياتها الزوجية، وابنة أختها التي تركتها أختها لها نهائيًا واختفت تمامًا لا أحد يعلم عنها شيئًا.
ولكن الحال لا يدوم، حيث زادت الخلافات بينها وبين زوجها العاطل المدمن التارك لها أمور المنزل بما فيه، فقررت الطلاق منه، وبالفعل تم لها ما أرادت مقابل مبلغ من المال مثل له فرصة، ولكنه ليس بالكثير ، ولكن الإدمان والرغبة في التعاطي جعلت منه رجلًا يريد المال بأي شكل وأية قيمة ليشبع رغبة الوقتية في التعاطي، فهذا ما يهمه ويشغله. ومن جديد تتكرر حكاية الجدة مرة أخرى، وتقرر الزوجة العودة للزوج الأول المريض لتنأى به عن كلام الناس، ولكنها رجعت باتفاقية شروطها أن يستمر الرجل في العيش كما هو في حجرته وستقوم برعايته، فهي كانت تفعل ذلك حتى أثناء زواجها من الرجل الآخر كنوع من الإحسان، فلا يشعر بالفقير والمحتاج غير الفقير والمحتاج مثله، وتستمر بالعمل في تربية بناتها وعملها في تبديل الأنابيب، ولكنها تعلن أمام الناس عودتها له مرة أخرى وزواجها منه، فكل ما يهمها هنا أن تقي بهذا الخبر الكاذب كلام الناس وتأمن نفسها من شر زوجها الثاني.
وعادت الحياة مرة أخرى للبيت الصغير، إن الظروف المادية وصعوبات الحياة تمثل ضغطًا ولكن الحياة مستمرة والبيت سعيد، وابنتها المتزوجة تعود لبيتها تارة، وترجع لبيت أمها تارة أخرى.
وذات يوم، وبينما الفتاة غاضبة في بيت أمها تاركة بيت زوجها، شعرت بالتعب والإرهاق، فأخذتها الأم للمستوصف الصحي لتكشف لها، فأخبرها الطبيب بأن ابنتها حامل في الشهر الثاني بعد عمل التحاليل الخاصة بهذا للفتاة، ففرحت الأم وظنت أن هذا الحمل قد يكون طوق النجاة لاستقرار حياة ابنتها الزوجية، حيث قالت لابنتها أثناء عودتهما من المستوصف بأنها سترسل أحد الجيران ليخبر زوجها بهذا الخبر لعله يأتي لها ليصالحها، ولكن الفتاة رفضت وعرضت على والدتها أن تذهب لبيتها بنفسها لتخبر زوجها لعل ذلك يفرحه أكثر ويستقر أمر البيت والمنزل.
وافقت الأم على الفور وقالت لها: هل تحبين أن آتي معك لتهدئة الأمور إن تعصرت؟ ولكن الفتاة رفضت وقررت الذهاب بمفردها، وذهبت لبيت أمها وأخذت ملابسها وعادت لبيت زوجها لتخبره بالحمل السعيد، وبينما هي تفتح باب شقتها سمعت أصوات عالية، ففتحت الباب ودخلت بيتها لتجد زوجها مع امرأة أخرى، فحدثت مشادة كلامية بينهما تنابزا فيها بأبشع وأقذر الألفاظ انتهت بهروب السيدة التي وُجِدَت مع زوجها، وإلقاء الزوج للفتاة من شرفة البيت دون أن يعلم بحمل زوجته، معتقدًا بأن قرب الشرفة من الأرض سيؤدي لإعاقة بسيطة تنتهي بالعلاج والصلح، ولكنه فوجىء بموتها، فالأرض متعرجة غير مستوية، وإلقاء الفتاة بعد مشادات عنيفة بينها وبين زوجها أدى كل ذلك للوفاة في الحال.
وأخيرًا تجمع الناس وأهل الحارة حول جثة الفتاة الملقاة على الأرض، والزوج المذهول من فعله وبما حدث، والأم التي أتت لترى أول فرحتها هكذا، ولتتساءل عما يحدث لها، ولتجتمع بناتها الصغار حولها وبجوارهن ابنة خالتهن، وتستمر الصدمة أيامًا وليال، لتقوم بعدها الأم مرة أخرى لتستقبل حياتها وتكمل مسيرتها، فهي تعلم بأن مسئولياتها لا يقوم بها غيرها، ولتأمن عدم وجود ضحايا مرة أخرى، حتى لا تتحقق مقولة “ضحايا يلدن ضحايا”.