شبهات وردود.. هل كلام الله تعالى فيه ناسخ ومنسوخ؟
د. محمد العربي
النسخ في اللغة هو الإزالة والمحو يقال : نسخت الشمس الظل يعنى أزالته ومحته، وأحلت الضوء محله.
ثم تطورت هذه الدلاله فأصبح النسخ يطلق على الكتابة، سوا كانت نقلا عن مكتوب أو ابتدأها الكاتب بلا نقل .
والنساخ أو الوراقون هم جماعة من محترفي الكتابة كانوا ينسخون کتب العلماء (ينقلون ما كتب فيها في أوراق جديدة في عدة نسخ، مثل طبع الكتب الآن) .
أما النسخ في الشرع فله عدة تعريفات أو ضوابط، يمكن التعبير عنها بالعبارة الآتية:
النسخ هو وقف العمل بحكم أفاده نص شرعی سابق من القرآن أو من السنة، وإحلال حكم آخر محله أفاده نص شرعی آخر لاحق من الكتاب أو السنة، لحكمة قصدها الشرع، مع صحة العمل بحكم النص السابق قبل ورود النص اللاحق.
والنسخ موجود بقلة في القرآن الكريم مثل نسخ حبس الزانيات في البيوت حتى الموت، وإحلال الحكم بالجلد مائة والرجم حتى الموت محل ذلك الحبس.
النسخ ووروده في القرآن:
الشبهة تقول:
القراّن وحده من دون سائر الكتب الدينية يتميز بوجود الناسخ والمنسوخ فيه، ومع أن كلام الله الحقيقيقى لا يجوز فيه الناسخ والمنسوخ، لأن الناسخ والمنسوخ فى كلام الله هو ضد حكمته وصدقه وعلمه، فالإنسان القصير النظر هو الذى يضع القوانين ويغيرها ويبدلها بحسب ما يبدو له من أحوال وظروف.
لكن الله يعلم بكل شئ قبل حدوثه فكيف يقال إن الله يغير كلامه ويبدله وينسخه ويزيله؟
ليس الله إنساناً فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم؟!
الرد على الشبهة:
نحن لا ننكر أن فى القراّن نسخاً، فالنسخ موجود في القرآن بين ندرة من الاّيات وبعض العلماء المسلمين يحصرها فيما يقل عن أصابع اليد الواحدة وبعضهم ينفى نفياً قاطعاً ورود النسخ في القرآن.
أما جمهور الفقهاء وعلماء الأصول فيقرونه بلا حرج، وقد خصصوا للنسخ فصولاً مسهبة فى مؤلفاتهم في أصول الفقه، وقلَّ من لم يذكره منهم قدماء ومحدثين.
والذي ننكره كذلك أن يكون وجود النسخ في القرآن عيباً أو قدحا من كونه كتاباً منزلا من عند الله، ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار.
ان الناسخ والمنسوخ في القرآن كان إحدى السمات التربوية والشريعية في فترة نزول القرآن الذي ظل يربى الأمة، وينتقل بها من طور إلى طور وفق إرادة الله الحكيم الذي يعلم المفسد من المصلح وهو العزيز الحكيم.
أما ما ذكرتموه من آيات القرآن، ساخرين من مبدأ الناسخ والمنسوخ فيه فتعالوا اسمعوا الاّيات التي ذكرتموها فى جداول المنسوخ والناسخ وهي قسمان:
أحدهما : فيه نسخ فعلا ( منسوخ وناسخ ).
وثانيهما : لا ناسخ فيه ولا منسوخ فيه، ونحن نلتمس لكم العذر في هذا ” الخلط ” لأنكم سرتم فى طريق لا تعرفون كيفية السير فيه.
القسم الأول : ما فيه نسخ :
من الآيات التى فيها نسخ وذكروها فى جدول الناسخ والمنسوخ الاّيتان التاليتان : ( واللاتى يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً ).
ثم قوله تعالى : ( الزانية والزانی فاجلدوا كل واحد منهما مائه جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله ).
هاتان الاّيتان فيهما نسخ فعلاً ، والمنسوخ هو حكم الحبس فى البيوت للزانيات حتى يمتن أو يجعل الله لهن حكماً اّخر.
وكان ذلك فى أول الإسلام، فهذا الحكم (حكم حبس الزانية فی البيت)، حين شرعه الله عز وجل أشار في الآية نفسها إلى أنه حكم مؤقت، له زمان محدد في علم الله أزلا، والدليل على أن هذا الحكم كان في علم الله مؤقتاً، وأنه سيحل حكم اّخر محله في الزمن الذى قدره الله عز وجل هو قوله: (أو يجعل الله لهن سبيلا).
هذا هو الحگم المنسوخ الآن وإن كانت الآية التي تضمنته باقية قراّنا يتلى إلى يوم القيامة، أما الناسخ فهو في قوله تعالى في سورة “النور” في الآية التي تقدمت، وبين الله فيها أن حكم الزانية والزاني هو مائة جلدة، وهذا الحكم ليس عاماً في جميع الزناة، بل في الزانية والزاني غير المحصنين، أما المحصنان وهما اللذان سبق لهما الزواج فقد بينت السنة قولياً وعملياً أن حكمهما الرجم حتى الموت.
وليس في ذلك غرابة، فتطور الأحكام التشريعية، ووقف العمل بحكم سابق، وإحلال حكم آخر لاحق محله مما اقتضاه منهج التربية في الإسلام، ولا نزاع في أن حكم الجلد في غير المحصنين، والرجم في الزناة المحصنين، أحسم للأمر، وأقطع لمادة الفساد.
وليس معنى هذا أن الله حين أنزل عقوبة حبس الزانيات لم يكن يعلم أنه سينزل حكماً اّخر يحل محله، وهو الجلد والرجم حاشا لله.
والنسخ بوجه عام مما يناسب حكمة الله وحسن تدبيره، أما ما يكون فيه مساس بكمال الله فهذا لا يتصوره إلا مرضى العقول أو المعاندين للحق الأبلج الذى أنزله الله. وهذا النسخ كان معمولا به فى الشرائع السابقة على شريعة الإسلام.
ومن أقطع الأدله على ذلك ما حكاه الله عن عيسى ( عليه السلام ) فى قوله لبنى إسرائيل: (ولأحل لكم بعض الذى حرم عليكم).
وفى أناجيل النصارى طائفة من الأحكام التى ذكروها وفيها نسخ لأحكام كان معمولاً بها فى العهد القديم.
ومثيرو هذه الشبهات ضد القرآن يعرفون جيدا وقوع النسخ بين بعض مسائل العهد القديم والعهد الجديد ومع هذا يدّعون بإصرار أن التوراة والأناجيل الآن متطابقين تمام الانطباق.
ومن هذا القسم أيضًا الآيتان الآتيتان:
(يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن پکن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون).
وقوله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن یکن منکم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منك ألف يغلبوا ألفين باذن الله والله مع الصابرين).
والآيتان فيهما نسخ واضح فالآية الأولى توجب مواجهة المؤمنين لعدوهم بنسبة ( 1 : 10 ) والاّية الثانية توجب مواجهة المؤمنين لعدوهم بنسبة ( 1 : 2 ).
وهذا التطور التشريعى يبين الله تعالى الحكمة التشريعة فيه وهي التخفيف على جماعة المؤمنين في الأعباء القتالية. فما عيب ذلك يا خصوم الإسلام؟
لو كان هؤلاء الحسدة طلاب حق مخلصين لاهتدوا إليه من أقصر طريق لأن الله عز وجل لم يدع مجالًا لريبة يرتابها مرتاب فى هاتين الاّيتين، لكنهم يبحثون عن “العورات” في دين أكمله الله وأتم النعمة فيه ثم ارتضاه للناس ديناً.
وقد قال الله في أمثالهم:
(ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين).
ومن هذا القسم أيضاً الآيتان الآتيتان:
(والذين يتوفون منکم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً الی الحول غير إخراج).
وقوله تعالى: (والذين يتوفون منکم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسن أربعة أشهر وعشراً).
هاتان الآيتان فيهما نسخ؛ لأن موضوعهما واحد، هو عدة المتوفی عنها زوجها.
الآية الأولى: حددت العدة بعام كامل.
والاّية الثانية: حددت العدة بأربعة أشهر وعشر ليال.
والمنسوخ حكماً لا تلاوة هو الآية الأولى، وإن يكن ترتيبها فى السورة بعد الآية الثانية.
والناسخ هو الآية الثانية التى حددت عدة المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر ليال، وإن كان ترتيبها فى السورة قبل الآية المنسوخ حكمها.
وحكمة التشريع من هذا النسخ ظاهرة وهى التخفيف، فقد استبعدت الآية الناسخة من مدة العدة المنصوص عليها فى الاّية المنسوخ حكمها ثمانية أشهر تقريباً والمعروف أن الانتقال من الأشد إلى الأخف أدعى لأمتثال الأمر وطاعة المحكوم به، وفيه بيان لرحمة الله عز وجل لعباده وهو هدف تربوى عظيم عند أولى الألباب.
وللحديث بقية.